فصل: باب في أن المحذوف إذا دلت الدلالة عليه كان في حكم الملفوظ به

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخصائص **


  باب في أن العرب قد أرادت من العلل والأغراض ما نسبناه إليها وحملناه عليها

اعلم أن هذا موضع في تثبيته وتمكينه منفعة ظاهرة وللنفس به مسكة وعصمة لأن فيه تصحيح ما ندعيه على العرب‏:‏ من أنها أرادت كذا لكذا وفعلت كذا لكذا‏.‏

وهو أحزم لها وأجمل بها وأدل على الحكمة المنسوبة إليها من أن تكون تكلفت ما تكلفته‏:‏ من استمرارها على وتيرة واحدة وتقريها منهجاً واحداً تراعيه وتلاحظه وتتحمل لذلك مشاقه وكلفه وتعتذر من تقصير إن جرى وقتاً منها في شيء منه‏.‏

وليس يجوز أن يكون ذلك كله في كل لغة لهم وعند كل قوم منهم حتى لا يختلف ولا ينتقض ولا يتهاجر على كثرتهم وسعة بلادهم وطول عهد زمان هذه اللغة لهم وتصرفها على ألسنتهم اتفاقاً وقع حتى لم يختلف فيه اثنان ولا تنازعه فريقان إلا وهم له مريدون وبسياقه على أوضاعهم فيه معنيون ألا ترى إلى اطراد رفع الفاعل ونصب المفعول والجر بحروف الجر والنصب بحروفه والجزم بحروفه وغير ذلك من حديث التثنية والجمع والإضافة والنسب والتحقير وما يطول شرحه فهل يحسن بذي لب أن يعتقد أن هذا كله اتفاق وقع وتوارد اتجه‏!‏‏.‏

فإن قلت ‏"‏ فما تنكر ‏"‏ أن يكون ذلك شيئاً طبعوا عليه وأجيئوا إليه من غير اعتقاد منهم لعلله ولا لقصد من القصود التي تنسبها إليهم في قوانينه وأغراضه بل لأن آخراً منهم حذا على ما نهج الأول فقال به وقام الأول للثاني في كونه إماماً له فيه مقام من هدى الأول إليه وبعثه عليه ملكاً كان أو خاطراً قيل‏:‏ لن يخلو ذلك أن يكون خبراً روسلوا به أو تيقظاً نبهوا على وجه الحكمة فيه‏.‏

فإن كان وحياً أو ما يجري مجراه فهو أنبه له وأذهب في شرف الحال به لأن الله سبحانه إنما هداهم لذلك ووقفهم عليه لأن في طباعهم قبولاً له وانطواء على صحة الوضع فيه لأنهم مع ما قدمناه من ذكر كونهم عليه في أول الكتاب من لطف الحس وصفائه ونصاعة جوهر الفكر ونقائه لم يؤتوا هذه اللغة الشريفة المنقادة الكريمة إلا ونفوسهم قابلة لها محسة لقوة الصنعة فيها معترفة بقدر النعمة عليهم بما وهب لهم منها ألا ترى إلى قول أبي مهدية‏:‏ يقولون لي‏:‏ شنبِذ ولست مشنبِذا طوال الليالي ما أقام ثبير ولا تاركاً لحني لأحسن لحنهم ولو دار صرف الدهر حيث يدور وحدثني المتنبي شاعرنا - وما عرفته إلا صادقاً - قال‏:‏ كنت عند منصرفي من مصر في جماعة من العرب وأحدهم يتحدث‏.‏

فذكر في كلامه فلاة واسعة فقال‏:‏ يحير فيها الطرف قال‏:‏ وآخر منهم يلقنه سراً من الجماعة بينه وبينه فيقول له‏:‏ يحار يحار‏.‏

أفلا ترى إلى هداية بعضهم لبعض وتنبيهه إياه على الصواب‏.‏

وقال عمار الكلبي - وقد عيب عليه بيت من شعره فامتعض لذلك -‏:‏ ماذا لقينا من المستعربين ومن قياس نحوهم هذا الذي ابتدعوا إن قلت قافية بكراً يكون بها بيت خلاف الذي قاسوه أو ذرعوا قالوا لحنت وهذا ليس منتصباً وذاك خفض وهذا ليس يرتفع وحرضوا بين عبد الله من حمق وبين زيد فطال الضرب والوجع كم بين قوم قد احتالوا لمنطقهم وبين قوم على إعرابهم طبعوا ما كل قولي مشروحاً لكم فخذوا ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعوا لأن أرضي أرض لا تشب بها نار المجوس ولا تبنى بها البيع والخبر المشهور في هذا للنابغة وقد عيب عليه قوله في الدالية المجرورة‏:‏ فلما لم يفهمه أتى بمغنية فغنته‏:‏ من آل مية رائح أو مغتد عجلان ذا زاد وغير مزود ومدت الوصل وأشبعته ثم قالت‏:‏ وبذاك خبرنا الغراب الأسود ومطلت واو الوصل فلما أحسه عرفه واعتذر منه وغيره - فيما يقال - إلى قوله‏:‏ وبذاك تنعاب الغراب الأسود وقال دخلت يثرب وفي شعري صنعة ثم خرجت منها وأنا أشعر العرب‏.‏

كذا الرواية‏.‏

وأما أبو الحسن فكان يرى ويعتقد أن العرب لا تستنكر الإقواء‏.‏

ويقول‏:‏ قلت قصيدة إلا وفيها الإقواء‏.‏

ويعتل لذلك بأن يقول‏:‏ إن كل بيت منها شعر قائم برأسه‏.‏

وهذا الاعتلال منه يضعف ويقبح التضمين في الشعر‏.‏

وأنشدنا أبو عبد الله الشجري يوماً لنفسه شعراً مرفوعاً وهو قوله‏:‏ نظرت بسنجار كنظرة ذي هوى رأى وطناً فانهل بالماء غالبه لأونس من أبناء سعد ظعائنا يزن الذي من نحوهن مناسبه يقول فيها يصف البعير‏:‏ فقلت‏:‏ يا أبا عبد الله‏:‏ أتقول ‏"‏ دوينة حاجبه ‏"‏ مع قولك ‏"‏ مناسبه ‏"‏ و ‏"‏ أشانبه ‏"‏‏!‏ فلم يفهم ما أردت فقال‏:‏ فكيف أصنع أليس ههنا تضع الجرير على القِرمة على الجِرفة وأمأ إلى أنفه فقلت‏:‏ صدقت غير أنك قلت ‏"‏ أشانبه ‏"‏ و ‏"‏ غالبه ‏"‏ فلم يفهم وأعاد اعتذاره الأول‏.‏

فلما طال هذا قلت له‏:‏ أيحسن أن يقول الشاعر‏:‏ آذنتنا ببينها أسماء رب ثاوٍ يُمَل منه الثواء ومطلت الصوت ومكنته ثم يقول مع ذلك‏:‏ ملك المنذر بن ماء السمائي فأحس حينئذ وقال‏:‏ أهذا‏!‏ أين هذا من ذاك‏!‏ إن هذا طويل وذاك قصير‏.‏

فاستروح إلى قصر الحركة في ‏"‏ حاجبه ‏"‏ وأنها أقل من الحرف في ‏"‏ أسماء ‏"‏ و ‏"‏ السماء ‏"‏‏.‏

وسألته يوماً فقلت له‏:‏ كيف تجمع ‏"‏ دكاناً ‏"‏ فقال‏:‏ دكاكين قلت‏:‏ فسرحاناً قال‏:‏ سراحين قلت‏:‏ فقرطاناً قال‏:‏ قراطين قلت‏:‏ فعثمان قال‏:‏ عثمانون‏.‏

فقلت له‏:‏ هلا قلت أيضاً عثامين قال‏:‏ أيش عثامين‏!‏ أرأيت إنساناً يتكلم بما ليس من لغته والله لا أقولها أبداً‏.‏

والمروي عنهم في شغفهم بلغتهم وتعظيمهم لها واعتقادهم أجمل الجميل فيها أكثر من أن يورد أو فإن قلت‏:‏ فإن العجم أيضاً بلغتهم مشغوفون ولها مؤثرون ولأن يدخلها شيء من العربي كارهون ألا ترى أنهم إذا أورد الشاعر منهم شعراً فيه ألفاظ من العربي عيب به وطعن لأجل ذلك عليه‏.‏

فقد تساوت حال اللغتين في ذلك‏.‏

فأية فضيلة للعربية على العجمية قيل‏:‏ لو أحست العجم بلطف صناعة العرب في هذه اللغة وما فيها من الغموض والرقة والدقة لاعتذرت من اعترافها بلغتها فضلاً عن التقديم لها والتنويه منها‏.‏

فإن قيل‏:‏ لا بل لو عرفت العرب مذاهب العجم في حسن لغتها وسداد تصرفها وعذوبة طرائقها لم تبء بلغتها ولا رفعت من رءوسها باستحسانها وتقديمها‏.‏

قيل‏:‏ قد اعتبرنا ما تقوله فوجدنا الأمر فيه بضده‏.‏

وذلك أنا نسأل علماء العربية مما أصله عجمي وقد تدرب بلغته قبل استعرابه عن حال اللغتين فلا يجمع بينهما بل لا يكاد يقبل السؤال عن ذلك لبعده في نفسه وتقدم لطف العربية في رأيه وحسه‏.‏

سألت غير مرة أبا علي - رضي الله عنه - عن ذلك فكان جوابه عنه نحواً مما حكيته‏.‏

فإن قلت‏:‏ ما تنكر أن يكون ذلك لأنه كان عالماً بالعربية ولم يكن عالماً باللغة العجمية ولعله لو كان عالماً بها لأجاب بغير ما أجاب به‏.‏

قيل‏:‏ نحن قد قطعنا بيقين وأنت إنما عارضت بشك ولعل هذا ليس قطعاً كقطعنا ولا يقيناً كيقيننا‏.‏

وأيضاً فإن العجم العلماء بلغة العرب وإن لم يكونوا علماء بلغة العجم فإن قواهم في العربية تؤيد معرفتهم بالعجمية وتؤنسهم بها وتزيد في تنبيههم على أحوالها لاشتراك العلوم اللغوية واشتباكها وتراميها إلى الغاية الجامعة لمعانيها‏.‏

ولم نر أحداً من أشياخنا فيها - كأبي حاتم وبندار وأبي علي وفلان وفلان - يسوون بينهما ولا يقربون بين حاليهما‏.‏

وكأن هذا موضع ليس للخلاف فيه مجال لوضوحه عند الكافة‏.‏

وإنما أوردنا منه هذا القدر احتياطاً به واستظهاراً على مورد له عسى أن يورده‏.‏

فإن قلت‏:‏ زعمت أن العرب تجتمع على لغتها فلا تختلف فيها وقد نراها ظاهرة الخلاف ألا ترى إلى الخلاف في ‏"‏ ما ‏"‏ الحجازية والتميمية وإلى الحكاية في الاستفهام عن الأعلام في الحجازية وترك ذلك في التميمية إلى غير ذلك قيل‏:‏ هذا القدر من الخلاف لقلته ونزارته محتقر غير محتفل به ولا معيج عليه وإنما هو في شيء من الفروع يسير‏.‏

فأما الأصول وما عليه العامة والجمهور فلا خلاف فيه ولا مذهب للطاعن به‏.‏

وأيضاً فإن أهل كل واحدة من اللغتين عدد كثير وخلق ‏"‏ من الله ‏"‏ عظيم وكل واحد منهم محافظ على لغته لا يخالف شيئاً منها ولا يوجد عنده تعاد فيها‏.‏

فهل ذلك إلا لأنهم يحتاطون ويقتاسون ولا يفرطون ولا يخلطون‏.‏

ومع هذا فليس شيء مما يختلفون فيه - على قلته وخفته - إلا له من القياس وجه يؤخذ به‏.‏

ولو كانت هذه اللغة حشواً مكيلاً وحثواً مهيلاً لكثر خلافها وتعادت أوصافها‏:‏ فجاء عنهم جر الفاعل ورفع المضاف إليه والمفعول به والجزم بحروف النصب والنصب بحروف الجزم بل جاء عنهم الكلام سدى غير محصل وغفلاً من الإعراب ولاستغنى بإرساله وإهماله عن إقامة إعرابه والكلف الظاهرة بالمحاماة على طرد أحكامه‏.‏

هذا كله وما أكني عنه من مثله - تحامياً للإطالة به - إن كانت هذه اللغة شيئاً خوطبوا به وأخذوا باستعماله‏.‏

وإن كانت شيئاً اصطلحوا عليه وترافدوا بخواطرهم ومواد حكمهم على عمله وترتيبه وقسمة أنحائه وتقديمهم أصوله وإتباعهم إياها فروعه - وكذا ينبغي أن يعتقد ذلك منهم لما نذكره آنفاً - فهو مفخر لهم ومعلم من معالم السداد دل على فضيلتهم‏.‏

والذي يدل على أنهم قد أحسوا ما أحسسنا وأرادوا وقصدوا ما نسبنا إليهم إرادته وقصده شيئان‏:‏ أحدهما حاضر معنا والآخر غائب عنا إلا أنه مع أدنى تأمل في حكم الحاضر معنا‏.‏

فالغائب ما كانت الجماعة من علمائنا تشاهده من احوال العرب ووجوهها وتضطر إلى معرفته من أغراضها وقصودها‏:‏ من استخفافها شيئاً أو استثقاله وتقبله أو إنكاره والأنس به أو الاستيحاش منه والرضا به أو التعجب من قائله وغير ذلك من الأحوال الشاهدة بالقصود بل الحالفة على ما في النفوس ألا ترى إلى قوله‏:‏ تقول - وصكت وجهها بيمينها - أبعلي هذا بالرحى المتقاعس‏!‏ فلو قال حاكياً عنها‏:‏ أبعلي هذا بالرحى المتقاعس - من غير أن يذكر صك الوجه - لأعلمنا بذلك أنها كانت متعجبة منكرة لكنه لما حكى الحال فقال‏:‏ ‏"‏ وصكت وجهها ‏"‏ علم بذلك قوة إنكارها وتعاظم الصورة لها‏.‏

هذا مع أنك سامع لحكاية الحال غير مشاهد لها ولو شاهدتها لكنت بها أعرف ولعظم الحال في نفس تلك المرأة أبين وقد قيل ‏"‏ ليس المخبر كالمعاين ‏"‏ ولو لم ينقل إلينا هذا الشاعر حال هذه المرأة بقوله‏:‏ وصكت وجهها لم نعرف به حقيقة تعاظم الأمر لها‏.‏

وليست كل حكاية تروى لنا ولا كل خبر ينقل إلينا يشفع به شرح الأحوال التابعة له المقترنة - كانت - به‏.‏

نعم ولو نقلت إلينا لم نفد بسماعها ما كنا نفيده لو حضرناها‏.‏

وكذلك قول الآخر‏:‏ قلنا لها قفي لنا قالت قاف لو نقل إلينا هذا الشاعر شيئاً آخر من جملة الحال فقال مع قوله ‏"‏ قالت قاف ‏"‏‏:‏ ‏"‏ وأمسكت بزمام بعيرها ‏"‏ أو ‏"‏ وعاجته علينا ‏"‏ لكان أبين لما كانوا عليه وأدل على أنها أرادت‏:‏ وقفت أو توقفت دون أن يظن أنها أرادت‏:‏ قفي لنا‏!‏ أي يقول لي‏:‏ قفي لنا‏!‏ متعجبة منه‏.‏

وهو إذا شاهدها وقد وقفت علم أن قولها قاف إجابة له لا رد لقوله وتعجب منه في قوله ‏"‏ قفي لنا ‏"‏‏.‏

وبعد فالحمالون والحماميون والساسة والوقادون ومن يليهم ويعتد منهم يستوضحون من مشاهدة الأحوال ما لا يحصله أبو عمرو من شعر الفرزدق إذا أخبر به عنه ولم يحضره ينشده‏.‏

أولا تعلم أن الإنسان إذا عناه أمر فأراد أن يخاطب به صاحبه وينعم تصويره له في نفسه استعطفه ليقبل عليه فيقول له‏:‏ يا فلان أين أنت أرني وجهك أقبل علي أحدثك أما أنت حاضر يا هناه‏.‏

فإذا أقبل عليه وأصغى إليه اندفع يحدثه أو يأمره أو ينهاه أو نحو ذلك‏.‏

فلو كان استماع الأذن مغنياً عن مقابلة العين مجزئاً عنه لما تكلف القائل ولا كلف صاحبه الإقبال عليه والإصغاء إليه‏.‏

وعلى ذلك قال‏:‏ العين تبدي الذي في نفس صاحبها من العداوة أو ود إذا كانا وقال الهذلي‏:‏ رفوني وقالوا‏:‏ يا خويلد لا ترع فقلت - وأنكرت الوجوه -‏:‏ هم هم أفلا ترى إلى اعتباره بمشاهدة الوجوه وجعلها دليلاً على ما في النفوس‏.‏

وعلى ذلك قالوا‏:‏ ‏"‏ رب إشارة أبلغ من عبارة ‏"‏ وحكاية الكتاب من هذا الحديث وهي قوله‏:‏ ‏"‏ ألا تا ‏"‏ و ‏"‏ بلى فا ‏"‏‏.‏

وقال لي بعض مشايخنا رحمه الله‏:‏ أنا لا أحسن أن أكلم إنساناً في الظلمة‏.‏

ولهذا الموضع نفسه ما توقف أبو بكر عن كثير مما أسرع إليه أبو إسحاق من ارتكاب طريق الاشتقاق واحتج أبو بكر عليه بأنه لا يؤمن أن تكون هذه الألفاظ المنقولة إلينا قد كانت لها أسباب لم نشاهدها ولم ندر ما حديثها ومثل له بقولهم ‏"‏ فرع عقيرته ‏"‏ إذا رفع صوته‏.‏

قال له أبو بكر‏:‏ فلو ذهبنا نشتق لقولهم ‏"‏ ع ق ر ‏"‏ من معنى الصوت لبعد الأمر جداً وإنما هو أن رجلاً قطعت إحدى رجليه فرفعها ووضعها على الأخرى ثم نادى وصرخ بأعلى صوته فقال الناس‏:‏ رفع عقيرته أي رجله المعقورة‏.‏

قال أبو بكر‏:‏ فقال أبو إسحاق‏:‏ لست أدفع هذا‏.‏

ولذلك قال سيبويه في نحو من هذا‏:‏ أو لأن الأول وصل إليه علم لم يصل إلى الآخر يعني ما نحن عليه من مشاهدة الأحوال والأوائل‏.‏

فليت شعري إذا شاهد أبو عمرو وابن أبي إسحاق ويونس وعيسى بن عمر والخليل وسيبويه وأبو الحسن وأبو زيد وخلف الأحمر والأصمعي ومن في الطبقة والوقت من علماء البلدين وجوه العرب فيما تتعاطاه من كلامها وتقصد له من أغراضها ألا تستفيد بتلك المشاهدة وذلك الحضور ما لا تؤديه الحكايات ولا تضبطه الروايات فتضطر إلى قصود العرب وغوامض ما في أنفسها حتى لو حلف منهم حالف على غرض دلته عليه إشارة لا عبارة لكان عند نفسه وعند جميع من يحضر حاله صادقاً فيه غير متهم الرأي والنحيزة والعقل‏.‏

فهذا حديث ما غاب عنا فلم ينقل إلينا وكأنه حاضر معنا مناج لنا‏.‏

وأما ما روي لنا فكثير‏.‏

منه ما حكى الأصمعي عن أبي عمرو قال‏:‏ سمعت رجلاً من اليمن يقول‏:‏ فلان لغوب جاءته كتابي فاحتقرها‏.‏

فقلت له‏:‏ أتقول جاءته كتابي‏!‏ قال‏:‏ نعم أليس بصحيفة‏.‏

أفتراك تريد من أبي عمرو وطبقته وقد نظروا وتدربوا وقاسوا وتصرفوا أن يسمعوا أعرابياً جافياً غفلاً يعلل هذا الموضع بهذه العلة ويحتج لتأنيث المذكر بما ذكره فلا ‏"‏ يهتاجواهم ‏"‏ لمثله ولا يسلكوا فيه طريقته فيقولوا‏:‏ فعلوا كذا لكذا وصنعوا كذا لكذا وقد شرع لهم العربي ذلك ووقفهم على سمته وأمه‏.‏

وحدثنا أبو علي عن أبي بكر عن أبي العباس أنه قال‏:‏ سمعت عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير يقرأ ‏{‏وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ‏}‏ فقلت له ما تريد قال‏:‏ أردت‏:‏ سابقٌ النهار‏.‏

فقلت له‏:‏ فهلا قلته فقال‏:‏ لو قلته لكان أوزن‏.‏

ففي هذه الحكاية لنا ثلاثة أغراض مستنبطة منها‏:‏ أحدها تصحيح قولنا‏:‏ إن أصل كذا كذا والآخر قولنا‏:‏ إنها فعلت كذا لكذا ألا تراه إنما طلب الخفة يدل عليه قوله‏:‏ لكان أوزن‏:‏ أي أثقل في النفس وأقوى من قولهم‏:‏ هذا درهم وازن‏:‏ أي ثقيل له وزن‏.‏

والثالث أنها قد تنطق بالشيء غيره في أنفسها أقوى منه لإيثارها التخفيف‏.‏

وقال سيبويه حدثنا من نثق به أن بعض العرب قيل له أما بمكان كذا وكذا وجذ فقال‏:‏ بلى وِجاذاً أي أعرف بها وِجاذاً وقال أيضاً‏:‏ وسمعنا بعضهم يدعو على غنم رجل فقال‏:‏ اللهم ضبعاً وذئباً فقلنا‏:‏ له ما أردت فقال‏:‏ أردت‏:‏ اللهم اجمع فيها ضبعاً وذئباً كلهم يفسر ما ينوي‏.‏

فهذا تصريح منهم بما ندعيه عليهم وننسبه إليهم‏.‏

وسألت الشجري يوماً فقلت‏:‏ يا أبا عبد الله كيف تقول ضربت أخاك فقال‏:‏ كذاك‏.‏

فقلت‏:‏ أفتقول‏:‏ ضربت أخوك فقال‏:‏ لا أقول‏:‏ أخوك أبداً‏.‏

قلت‏:‏ فكيف تقول ضربني أخوك فقال‏:‏ كذاك‏.‏

فقلت‏:‏ ألست زعمت أنك لا تقول‏:‏ أخوك أبداً فقال أيش ذا‏!‏ اختلفت جهتا الكلام‏.‏

فهل هذا في معناه إلا كقولنا نحن‏:‏ صار المفعول فاعلاً وإن لم يكن بهذا اللفظ البتة فإنه هو لا محالة‏.‏

ومن ذلك ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قوماً من العرب أتوه فقال لهم‏:‏ من أنتم فقالوا‏:‏ نحن بنو غيان فقال‏:‏ بل أنتم بنو رشدان‏.‏

فهل هذا إلا كقول أهل الصناعة‏:‏ إن الألف والنون زائدتان وإن كان - عليه السلام - لم يتفوه بذلك غير أن اشتقاقه إياه من الغي بمنزلة قولنا نحن‏:‏ إن الألف والنون فيه زائدتان‏.‏

وهذا واضح‏.‏

وكذلك قولهم‏:‏ إنما سميت هانئاً لتهنأ قد عرفنا منه أنهم كأنهم قد قالوا‏:‏ إن الألف في هانيء زائدة وكذلك قولهم‏:‏ فجاء يدرم من تحتها - أي يقارب خطاه لثقل الخريطة بما فيها فسمي دارماً - قد أفادنا اعتقادهم

زيادة الحمل على الظاهر

باب في الحمل على الظاهر

وإن أمكن أن يكون المراد غيره اعلم أن المذهب هو هذا الذي ذكرناه والعمل عليه والوصية به‏.‏

فإذا شاهدت ظاهراً يكون مثله أصلاً أمضيت الحكم على ما شاهدته من حاله وإن أمكن أن تكون الحال في باطنه بخلافه ألا ترى أن سيبويه حمل سيداً على أنه مما عينه ياء فقال في تحقيره‏:‏ سييد كديك ودييك وفيل وفييل‏.‏

وذلك أن عين الفعل لا ينكر أن تكون ياء وقد وجدت في سيد ياء فهي في ظاهر أمرها إلى أن يرد ما يستنزل عن بادي حالها‏.‏

فإن قلت‏:‏ فإنا لا نعرف في الكلام تركيب ‏"‏ س ي د ‏"‏ فهلا لما لم يجد ذلك حمل الكلمة على ما في الكلام مثله وهو ما عينه من هذا اللفظ واو وهو السواد والسودد ونحو ذلك قيل‏:‏ هذا يدلك على قوة الظاهر عندهم وأنه إذا كان مما تحتمله القسمة وتنتظمه القضية حكم به وصار أصلاً على بابه‏.‏

وليس يلزم إذا قاد الظاهر إلى إثبات حكم تقبله الأصول ولا تستنكره ألا يحكم به حتى يوجد له نظير‏.‏

وذلك أن النظير - لعمري - مما يؤنس به فأما ألا تثبت الأحكام إلا به فلا ألا ترى أنه قد أثبت في الكلام فعُلت تفعَل وهو كدت تكاد وإن لم يوجدنا غيره وأثبت بإنقحل باب ‏"‏ إنفعل ‏"‏ وإن لم يحك هو غيره وأثبت بسخاخين ‏"‏ فُعاعِيلا ‏"‏ وإن لم يأت بغيره‏.‏

فإن قلت‏:‏ فإن ‏"‏ سيداً ‏"‏ مما يمكن أن يكون من باب ريح وديمة فهلا توقف عن الحكم بكون عينه ياء لأنه لا يأمن أن تكون واواً قيل‏:‏ هذا الذي تقوله إنما تدعي فيه ألا يؤمن أن يكون من الواو وأما الظاهر فهو ما تراه‏.‏

ولسنا ندع حاضراً له وجه من القياس لغائب مجوز ليس عليه دليل‏.‏

فإن قيل‏:‏ كثرة عين الفعل واواً تقود إلى الحكم بذاك قيل‏:‏ إنما يحكم بذاك مع عدم الظاهر فأما والظاهر معك فلا معدل عنه بك‏.‏

لكن - لعمري - إن لم يكن معك ظاهراً احتجت إلى التعديل والحكم بالأليق والحمل على الأكثر‏.‏

وذلك إذا كانت العين ألفاً مجهولة فحينئذ ما تحتاج إلى تعديل الأمر فتحمل على الأكثر‏.‏

فلذلك قال في ألف ‏"‏ آءة ‏"‏‏:‏ إنها بدل من واو‏.‏

وكذلك ينبغي أن تكون ألف ‏"‏ الراء ‏"‏ لضرب من النبت وكذلك ألف ‏"‏ الصاب ‏"‏ لضرب من الشجر‏.‏

فأما ألا يجيء من ذلك اللفظ نظير فتعلل بغير نافع ولا مجد ألا ترى أنك تجد من الأصول ما لم يتجاوز به موضع واحد كثيراً‏.‏

من ذلك في الثلاثي حوشب وكوكب ودودري وأبنبم‏.‏

فهذه ونحوها لا تفارق موضعاً واحداً ومع ذلك فالزوائد فيها لا تفارقها‏.‏

وعلى نحو مما جئنا به في ‏"‏ سيد ‏"‏ حمل سيبويه عيَّناً فأثبت به ‏"‏ فيعلاً ‏"‏ مما عينه ياء وقد كان يمكن أن يكون ‏"‏ فوعلاً ‏"‏ و ‏"‏ فعولاً ‏"‏ من لفظ العين ومعناها ولو حكم بأحد هذين المثالين لحمل على مألوف غير منكور ‏"‏ ألا ترى أن فوعلاً وفعولاً ‏"‏ لا مانع لكل واحد منهما أن يكون في المعتل كما يكون في الصحيح وأما ‏"‏ فيعل ‏"‏ - بفتح العين - مما عينه معتلة فعزيز ثم لم يمنعه عزه ذلك أن حكم به على ‏"‏ عين ‏"‏ وعدل عن أن يحمله على أحد المثالين اللذين كل واحد منهما لا مانع له من كونه في المعتل العين كونه في الصحيحها‏.‏

وهذا أيضاً مما يبصرك بقوة الأخذ بالظاهر عندهم وأنه مكين القدم راسيها في أنفسهم‏.‏

وكذلك يوجب القياس فيما جاء من الممدود لا يعرف له تصرف ولا مانع من الحكم بجعل همزته أصلاً فينبغي حينئذ أن يعتقد فيها أنها أصلية‏.‏

وكذلك همزة ‏"‏ قساء ‏"‏ فالقياس يقتضي اعتقاد كونها أصلاً اللهم إلا أن يكون ‏"‏ قساء ‏"‏ هو ‏"‏ قسى ‏"‏ في قوله‏:‏ بجو من قسىً ذفر الخزامى تداعى الجِربياء به الحنينا فإن كان كذلك وجب أن يحكم بكون همزة ‏"‏ قساء ‏"‏ أنها بدل من حرف العلة الذي أبدلت منه ألف ‏"‏ قسى ‏"‏‏.‏

وأن يكون ياء أولى من أن يكون واواً لما ذكرناه في كتابنا في شرح المقصور والممدود ليعقوب بن السكيت‏.‏

فإن قلت‏:‏ فلعل ‏"‏ قسى ‏"‏ هذا مبدل من ‏"‏ قساء ‏"‏ والهمزة فيه هي الأصل‏.‏

قيل‏:‏ هذا حمل على الشذوذ لأن إبدال الهمز شاذ والأول أقوى لأن إبدال حرف العلة همزة إذا وقع طرفاً بعد ألف زائدة هو الباب‏.‏

وذكر محمد بن الحسن ‏"‏ أروى ‏"‏ في باب ‏"‏ أرو ‏"‏ فقلت لأبي علي‏:‏ من أين له أن اللام واو وما يؤمنه أن تكون ياء فتكون من باب التقوى والرعوى فجنح إلى ما نحن عليه‏:‏ من الأخذ بالظاهر وهو القول‏.‏

فاعرف بما ذكرته قوة اعتقاد العرب في الحمل على الظاهر ما لم يمنع منه مانع‏.‏

وأما حيوة والحيوان فيمنع من حمله على الظاهر أنا لا نعرف في الكلام ما عينه ياء ولامه واو فلا بد أن تكون الواو بدلاً من ياء لضرب من الاتساع مع استثقال التضعيف في الياء ولمعنى العلمية في حيوة‏.‏

وإذا كانوا قد كرهوا تضعيف الياء مع الفصل حتى دعاهم ذلك إلى التغيير في حاحيت وهاهيت وعاعيت كان إبدال اللام في الحيوان - ليختلف الحرفان - أولى وأحجى‏.‏

فإن قلت‏:‏ فهلا حملت الحيوان على ظاهره وإن لم يكن له نظير كما حملت سيداً على ظاهره وإن لم تعرف تركيب ‏"‏ س ي د ‏"‏ قيل‏:‏ ما عينه ياء كثر وما عينه ياء ولامه واو مفقود أصلاً من الكلام‏.‏

فلهذا أثبتنا سيداً ونفينا ‏"‏ ظاهر أمر ‏"‏ الحيوان‏.‏

وكذلك القول في نون عنتر وعنبر‏:‏ ينبغي أن تكون أصلاً وإن كان قد جاء عنهم نحو عنبس وعنسل لأن أذنيك أخرجهما الاشتقاق‏.‏

وأما عنتر وعنبر وخَنشَلت وحِنزَقر وحِنبَتر ونحو ذلك فلا اشتقاق يحكم له بكون شيء منه زائداً فلا بد من القضية بكونه كله أصلاً‏.‏

فاعرف ذلك واكتف به بإذن الله تعالى‏.‏

  باب في مراتب الأشياء وتنزيلها تقديراً وحكماً لا زماناً ووقتاً

هذا الموضع كثير الإيهام لأكثر من يسمعه لا حقيقة تحته‏.‏ وذلك كقولنا‏:‏ الأصل في قام قوم وفي باع بيع وفي طال طول وفي خاف ونام وهاب‏:‏ خوف ونوم وهيب وفي شد شدد وفي استقام استقوم وفي يستعين يستعون وفي يستعد يستعدد‏.‏

فهذا يوهم أن هذه الألفاظ وما كان نحوها - مما يدعي أن له أصلاً يخالف ظاهر لفظه - قد كان مرة يقال حتى إنهم كانوا يقولون في موضع قام زيد‏:‏ قوَم زيد وكذلك نوِم جعفر وطَوُلَ محمد وشدَد أخوك يده واستعدد الأمير لعدوه وليس الأمر كذلك بل بضده‏.‏

وذلك أنه لم يكن قط مع اللفظ به إلا على ما تراه وتسمعه‏.‏

وإنما معنى قولنا‏:‏ إنه كان أصله كذا‏:‏ أنه لو جاء مجيء الصحيح ولم يعلل لوجب أن يكون مجيئه ‏"‏ على ما ذكرنا ‏"‏‏.‏

فأما أن يكون استعمل وقتاً من الزمان كذلك ثم انصرف عنه فيما بعد إلى هذا اللفظ فخطأ لا يعتقده أحد من أهل النظر‏.‏

ويدل على أن ذلك عند العرب معتقد - كما أنه عندنا مراد معتقد - إخراجها بعض ذلك مع صددت فأطولت الصدود وقلما وصال على طول الصدود يدوم هذا يدلك على أن أصل أقام أقوم وهو الذي نوميء نحن إليه ونتخيله فرب حرف يخرج هكذا منبهة على أصل بابه ولعله إنما أخرج على أصله فتُجشم ذلك فيه لما يعقب من الدلالة على أولية أحوال أمثاله‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ أني أجود لأقوام وإن ضننوا فأنت تعلم بهذا أن أصل شلت يده شلِلَت‏:‏ أي لو جاء مجيء الصحيح لوجب فيه إظهار تضعيفه‏.‏

وقد قال الفرزدق‏:‏ ولو رضيت يداي بها وضنت لكان علي في القدر الخيار فأصل ضنت إذاً ضنِنَت بدلالة قوله‏:‏ ضننوا‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ تراه - وقد فات الرماة - كأنه أمام الكلاب مُصغِيُ الخد أصلم تعلم منه أن أصل قولك‏:‏ هذا معطي زيد‏:‏ معطيُ زيد‏.‏

ومن أدل الدليل على أن هذه الأشياء التي ندعي أنها أصول مرفوضة لا يعتقد أنها قد كانت مرة مستعملة ثم صارت من بعد مهملة ما تعرضه الصنعة فيها من تقدير ما لا يطوع النطق به لتعذره‏.‏

وذلك كقولنا في شرح حال الممدود غير المهموز الأصل نحو سماء وقضاء‏.‏

ألا ترى أن الأصل سماوٌ وقضايٌ فلما وقعت الواو والياء طرفاً بعد ألف زائدة قلبتا ألفين فصار التقدير بهما إلى سماا وقضاا فلما التقت الألفان تحركت الثانية منهما فانقلبت همزة فصار ذلك إلى سماء وقضاء‏.‏

أفلا تعلم أن أحد ما قدرته - وهو التقاء الألفين - لا قدرة لأحد على النطق به‏.‏

وكذلك ما نتصوره وننبه عليه أبداً من تقدير مفعول مما عينه أحد حرفي العلة وذلك نحو مبيع ومكيل ومقول ومصوغ ألا تعلم أن الأصل مبيوع ومكيول ومقوول ومصووغ فنقلت الضمة من العين إلى الفاء فسكنت وواو مفعول بعدها ساكنة فحذفت إحداهما - على الخلاف فيهما - لالتقاء الساكنين‏.‏

فهذا جمع لهما تقديراً وحكماً‏.‏

فأما أن يمكن النطق بهما على حال فلا‏.‏

واعلم مع هذا أن بعض ما ندعي أصليته من هذا الفن قد ينطق به على ما ندعيه من حاله - وهو أقوى الأدلة على صحة ما نعتقده من تصور الأحوال الأول - وذلك اللغتان تختلف فيهما القبيلتان كالحجازية والتميمية ألا ترى أنا نقول في الأمر من المضاعف في التميمية - نحو شُدّ وضَنّ وفِرّ واستَعِدّ واصطبّ يا رجل واطمئنّ يا غلام -‏:‏ إن الأصل اشدُد واضنَن وافرِر واستعدِد واصطبِب واطمأنِن ومع هذا فهكذا لغة أهل الحجاز وهي اللغة الفصحى القدمى‏.‏

ويؤكد ذلك قول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ‏}‏ أصله استطاعوا فحذفت التاء لكثرة الاستعمال ولقرب التاء من الطاء وهذا الأصل مستعمل ألا ترى أن عقيبه قوله تعالى ‏{‏وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا‏}‏‏.‏

وفيه لغة أخرى وهي‏:‏ استعت بحذف الطاء كحذف التاء ولغة ثالثة‏:‏ أسطعت بقطع الهمزة مفتوحة ولغة رابعة‏:‏ أستعت مقطوعة الهمزة مفتوحة أيضاً‏.‏

فتلك خمس لغات‏:‏ استطعت واسطعت واستعت وأسطعت وأستعت‏.‏

وروينا بيت الجران‏:‏ وفيك إذا لاقيتنا عجرفية مراراً فما نستيع من يتعجرف بضم حرف المضارعة وبالتاء‏.‏

ومن ذلك اسم المفعول من الثلاثي المعتل العين نحو مبيع ومخيط ورجل مدين من الدين‏.‏

فهذا كله مغير‏.‏

وأصله مبيوع ومديون ومخيوط فغير على ما مضى‏.‏

ومع ذلك فبنو تميم - على ما حكاه أبو عثمان عن الأصمعي - يتمون مفعولاً من الياء فيقولون‏:‏ مخيوط ومكيول قد كان قومك يزعمونك سيداً وإخال أنك سيد معيون وأنشد أبو عمرو بن العلاء‏:‏ وكأنها تفاحة مطيوبة وقال علقمة بن عبدة‏:‏ يوم رذاذٍ عليه الدجن مغيوم ويروي‏:‏ يومٌ رذاذٌ‏.‏

وربما تخطوا الياء في هذه إلى الواو وأخرجوا مفعولاً منها على أصله وإن كان - أثقل منه من - الياء‏.‏

وذلك قول بعضهم‏:‏ ثوب مصوون وفرس مقوود ورجل معوود من مرضه‏.‏

وأنشدوا فيه‏:‏ والمسك في عنبره مدووف ولهذا نظائر كثيرة إلا أن هذا سمتها وطريقها‏.‏

فقد ثبت بذلك أن هذه الأصول المومأ إليها على أضرب‏:‏ منها ما لا يمكن النطق به أصلاً نحو ما اجتمع فيه ساكنان كسماء ومبيع ومصوغ ونحو ذلك‏.‏

ومنها ما يمكن النطق به غير أن فيه من الاستثقال ما دعا إلى رفضه واطراحه إلا أن يشذ الشيء القليل منه فيخرج على أصله منبهة ودليلاً على أولية حاله كقولهم‏:‏ لححت عينه وألِل السقاء إذا تغيرت ريحه وكقوله‏:‏ لا بارك الله في الغواني هل يصبحن إلا لهن مطَّلب ومن ذلك امتناعهم من تصحيح الياء في نحو موسر وموقن والواو في نحو ميزان وميعاد وامتناعهم من إخراج افتعل وما تصرف منه إذا كانت فاؤه صاداً أو ضاداً أو طاء أو ظاء أو دالاً أو ذالاً أو زاياً على أصله وامتناعهم من تصحيح الياء والواو إذا وقعتا طرفين بعد ألف زائدة وامتناعهم من جمع الهمزتين في كلمة واحدة ملتقيتين غير عينين‏.‏

فكل هذا وغيره مما يكثر تعداده يمتنع منه استكراهاً للكلفة فيه وإن كان النطق به ممكناً غير متعذر‏.‏

وحدثنا أبو علي رحمه الله فيما حكاه - أظنه - عن خلف الأحمر‏:‏ قال‏:‏ يقال التقطت النوى واشتقطته واضتقطته‏.‏

فصحح تاء افتعل وفاؤه ضاد ونظائره - مما يمكن النطق به إلا أنه رفض استثقالاً له - كثيرة‏.‏

قال أبو الفتح‏:‏ ينبغي أن تكون الضاد في اضتقطت بدلاً من شين اشتقطت فلذلك ظهرت كما تصح التاء مع الشين‏.‏

ونظيره قوله‏:‏ مال إلى أرطاة حقف فالطجع ومنها ما يمكن النطق به إلا أنه لم يستعمل لا لثقله لكن لغير ذلك‏:‏ من التعويض منه أو لأن الصنعة أدت إلى رفضه‏.‏

وذلك نحو ‏"‏ أن ‏"‏ مع الفعل إذا كان جواباً للأمر والنهي وتلك الأماكن السبعة نحو اذهب فيذهب معك ‏{‏لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ‏}‏ وذلك أنهم عوضوا من ‏"‏ أن ‏"‏ الناصبة حرف العطف وكذلك قولهم‏:‏ لا يسعني شيء ويعجز عنك وقوله‏:‏ ‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

إنما نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا صارت أو - والواو - فيه عوضاً من ‏"‏ أن ‏"‏ وكذلك الواو التي تحذف ‏"‏ معها رب ‏"‏ في أكثر الأمر نحو قوله‏:‏ وقاتم الأعماق خاوي المخترق غير أن الحر لرب لا للواو كما أن النصب في الفعل إنما هو لأن المضمرة لا للفاء ولا للواو ولا ‏"‏ لأو ‏"‏‏.‏

ومن ذلك ما حذف من الأفعال وأنيب عنه غيره مصدراً كان أو غيره نحو ضرباً زيداً وشتماً عمراً‏.‏

وكذلك دونك زيداً وعندك جعفراً ونحو ذلك‏:‏ من الأسماء المسمى بها الفعل‏.‏

فالعمل الآن إنما هو لهذه الظواهر المقامات مقام الفعل الناصب‏.‏

ومن ذلك ما أقيم من الأحوال المشاهدة مقام الأفعال الناصبة نحو قولك إذا رأيت قادماً‏:‏ خير مقدم أي قدمت خير مقدم‏.‏

فنابت الحال المشاهدة مناب الفعل الناصب‏.‏

وكذلك قولك للرجل يهوي بالسيف ليضرب به‏:‏ عمراً وللرامي للهدف إذا أرسل النزع فسمعت صوتاً القرطاس والله‏:‏ أي اضرب عمراً وأصاب القرطاس‏.‏

فهذا ونحوه لم يرفض ناصبه لثقله بل لأن ما ناب عنه جار عندهم مجراه ومؤد تأديته‏.‏

وقد ذكرنا في كتابنا الموسوم ‏"‏ بالتعاقب ‏"‏ من هذا النحو ما فيه كاف بإذن الله تعالى‏.‏

  باب في فرق بين البدل والعوض

جماع ما في هذا أن البدل أشبه بالمبدل منه من العوض بالمعوض منه‏.‏

وإنما يقع البدل في موضع المبدل منه والعوض لا يلزم فيه ذلك ألا تراك تقول في الألف من قام‏:‏ إنها بدل من الواو التي هي عين الفعل ولا تقول فيها‏:‏ إنها عوض منها وكذلك يقال في واو جُوَن وياء مِيَر‏:‏ إنها بدل للتخفيف من همزة جؤن ومئر ولا تقول‏:‏ إنها عوض منها‏.‏

وكذلك تقول في لام غاز وداع‏:‏ إنها بدل من الواو ولا تقول‏:‏ إنها عوض منها‏.‏

وتقول في العوض‏:‏ إن التاء في عدة وزنة عوض من فاء الفعل ولا تقول‏:‏ إنها بدل من منها‏.‏

فإن قلت‏:‏ ذاك فما أقله‏!‏ وهو تجوز في العبارة‏.‏

وسنذكر لم ذلك‏.‏

وتقول في ميم ‏"‏ اللهم ‏"‏‏:‏ إنها عوض من ‏"‏ يا ‏"‏ في أوله ولا تقول‏:‏ بدل‏.‏

وتقول في تاء زنادقة‏:‏ إنها عوض من ياء زناديق ولا تقول‏:‏ بدل‏.‏

وتقول في ياء ‏"‏ أينق ‏"‏‏:‏ إنها عوض من عين ‏"‏ أنوق ‏"‏ فيمن جعلها أيفل ومن جعلها عيناً مقدمة مغيرة إلى الياء جعلها بدلاً من الواو‏.‏

فالبدل أعم تصرفاً من العوض‏.‏

فكل عوض بدل وليس كل بدل عوضاً‏.‏

وينبغي أن تعلم أن العوض من لفظ ‏"‏ عَوضُ ‏"‏ - وهو الدهر - ومعناه قال الأعشى‏:‏ والتقؤهما أن الدهر إنما هو مرور الليل والنهار وتصرم أجزائهما فكلما مضى جزء منه خلفه جزء آخر يكون عوضاً منه‏.‏

فالوقت الكائن الثاني غير الوقت الماضي الأول‏.‏

فلهذا كان العوض أشد مخالفة للمعوض منه من البدل‏.‏

وقد ذكرت في موضع من كلامي مفرد اشتقاق أسماء الدهر والزمان وتقصيته هناك‏.‏

وأتيت أيضاً في كتابي الموسوم ب ‏"‏ التعاقب ‏"‏ على كثير من هذا الباب ونهجت الطريق إلى ما أذكره بما نبهت به عليه‏.‏

  باب في الاستغناء بالشيء عن الشيء

قال سيبويه‏:‏ واعلم أن العرب قد تستغني بالشيء عن الشيء حتى يصير المستغنى عنه مسقطاً من كلامهم البتة‏.‏

فمن ذلك استغناؤهم بترك عن ‏"‏ ودع ‏"‏ و ‏"‏ وذر ‏"‏‏.‏

فأما قراءة بعضهم ‏"‏ ما ودَعك ربك وما قلى ‏"‏ وقول أبي الأسود ‏"‏ حتى وَدَعه ‏"‏ فلغة شاذة وقد تقدم القول عليها‏.‏

ومن ذلك استغناؤهم بلمحة عن ملمحة وعليها كسرت ملامح وبشبه عن مشبه وعليه جاء مشابه وبليلة عن ليلاة وعليها جاءت ليال وعلى أن ابن الأعرابي قد أنشد‏:‏ في كل يوم ما وكل ليلاه حتى يقول كل راء إذ راه يا ويحه من جمل ما أشقاه‏!‏ وهذا شاذ لم يسمع إلا من هذه الجهة‏.‏

وكذلك استغنوا بذكر عن مذكار أو مذكير وعليه جاء مذاكير‏.‏

وكذلك استغنوا ب ‏"‏ أينق ‏"‏ عن أن يأتوا به والعين في موضعها فألزموه القلب أو الإبدال فلم يقولوا ‏"‏ أنوق ‏"‏ إلا في شيء شاذ حكاه الفراء‏.‏

وكذلك استغنوا بقسي عن قووس فلم يأت إلا مقلوباً‏.‏

ومن ذلك استغناؤهم بجمع القلة عن جمع الكثرة نحو قولهم أرجل لم يأتوا فيه بجمع الكثرة‏.‏

وكذلك شسوع‏:‏ لم يأتوا فيه بجمع القلة‏.‏

وكذلك أيام‏:‏ لم يستعملوا فيه جمع الكثرة‏.‏

فأما جيران فقد أتوا فيه بمثال القلة أنشد الأصمعي‏:‏ مذمة الأجوار والحقوق وذكره أيضاً ابن الأعرابي فيما أحسب‏.‏

فأما دراهم ودنانير ونحو ذلك - من الرباعي وما ألحق به - فلا سبيل فيه إلى جمع القلة‏.‏

وكذلك اليد التي هي العضو قالوا فيها أيد البتة‏.‏

فأما أياد فتكسير أيد لا تكسير يد وعلى أن ‏"‏ أياد ‏"‏ أكثر ما تستعمل في النعم لا في الأعضاء‏.‏

وقد جاءت أيضاً فيها أنشد أبو الخطاب‏:‏ ساءها ما تأملت في أيادي نا وإشناقُها إلى الأعناق وأنشد أبو زيد‏:‏ أما واحداً فكفاك مثلي فمن ليد تطاوحها الأيادي ومن أبيات المعاني في ذلك قوله‏:‏ ومستامة تستام وهي رخيصة تباع بساحات الأيادي وتمسح ‏"‏ مستامة ‏"‏ يعني أرضاً تسوم فيها الإبل من السير لا من السوم الذي هو البيع و ‏"‏ تباع ‏"‏ أي تمد فيها الإبل أبواعها وأيديها و ‏"‏ تمسح ‏"‏ من المسح وهو القطع من قول الله تبارك وتعالى ‏"‏ فطفق مسحاً بالسوق والأعناق ‏"‏ وقال العجاج‏:‏ وخطرت فيه الأيادي وخطر رايٌ إذا أورده الطعن صدر وقال الراجز‏:‏ كأنه بالصحصحان الأنجل قطنٌ سخامٌ بأيادي غُزَّل ومن ذلك استغناؤهم بقولهم‏:‏ ما أجود جوابه عن ‏"‏ هو أفعل منك ‏"‏ من الجواب‏.‏

فأما قولهم‏:‏ ما أشد سواده وبياضه وعوره وحوله فما لا بد منه‏.‏

ومنه أيضاً استغناؤهم باشتد وافتقر عن قولهم‏:‏ فقر وشد‏.‏

وعليه جاء فقير‏.‏

فأما شد فحكاها أبو زيد في المصادر ولم يحكها سيبويه‏.‏

ومن ذلك استغناؤهم عن الأصل مجرداً من الزيادة بما استعمل منه حاملاً للزيادة وهو صدر صالح من اللغة‏.‏

وذلك قولهم ‏"‏ حوشب ‏"‏ هذا لم يستعمل منه ‏"‏ حشب ‏"‏ عارية من الواو الزائدة ومثله ‏"‏ كوكب ‏"‏ ألا ترى أنك لا تعرف في الكلام ‏"‏ حشب ‏"‏ عارياً من الزيادة ولا ‏"‏ ككب ‏"‏ ومنه قولهم ‏"‏ دَودَرَّي ‏"‏ لأنا لا نعرف ‏"‏ ددر ‏"‏ ومثله كثير في ذوات الأربعة‏.‏

وهو في الخمسة أكثر منه في الأربعة‏.‏

فمن الأربعة فلنقس وصرنفح وسميدع وعميثل وسرومط وجحجبي وقسقبّ وقسحبّ وهرشفّ ومن ذوات الخمسة جعفليق وحنبريت ودردبيس وعضرفوط وقرطبوس وقرعبلانة وفنجليس‏.‏

فأما عرطليل - وهو رباعي - فقد استعمل بغير زيادة قال أبو النجم‏:‏ في سرطم هادٍ وعنقٍ عرطل وكذلك خنشليل ألا ترى إلى قولهم‏:‏ خنشلت المرأة والفرس إذا أسنت وكذلك عنتريس ألا ترى أنه من العترسة وهي الشدة‏.‏

فأما قِنفَخر فإن النون فيه زائدة‏.‏

وقد حذفت - لعمري - في قولهم‏:‏ امرأة قفاخرية إذا كانت فائقة في معناها غير أنك وإن كنت قد حذفت النون فإنك قد صرت إلى زيادة أخرى خلفتها وشغلت الأصل شغلها وهي الألف وياء الإضافة‏.‏

فأما تاء التأنيث فغير معتدة‏.‏

وأما حيزبون فرباعي لزمته زيادة الواو‏.‏

فإن قلت‏:‏ فهلا جعلته ثلاثياً من لفظ الحزب قيل يفسد هذا أن النون في موضع زاي عيضموز فيجب لذلك أن تكون أصلاً كجيم ‏"‏ خيسفوج ‏"‏ وأما ‏"‏ عريقصان ‏"‏ فتناوبته زيادتان وهما الياء في عريقصان والنون في ‏"‏ عرنقصان ‏"‏ كلاهما يقال بالنون والياء‏.‏

فأما ‏"‏ عِزويت ‏"‏ فمن لفظ ‏"‏ عزوت ‏"‏ لأنه ‏"‏ فِعليت ‏"‏ والواو لام‏.‏

وأما ‏"‏ قنديل ‏"‏ فكذلك أيضاً ألا ترى إلى قول العجلي‏:‏ رُكب في ضخم الذفاري قندل وأما عَلَندى فتناهبته الزوائد‏.‏

وذلك أنهم قد قالوا فيه‏:‏ عِلوَدٌ وعُلادى وعُلَندًى وعَلَندًى ألا ولزوم الزيادة لما لزمته من الأصول يضعف تحقير الترخيم لأن فيه حذفاً للزوائد‏.‏

وبإزاء ذلك ما حذف من الأصول كلام يد ودم وأب وأخ وعين سهٍ ومذ وفاء عدة وزنة وناس والله في أقوى قولي سيبويه‏.‏

فإذا جاز حذف الأصول فيما أرينا وغيره كان حذف الزوائد التي ليست لها حرمة الأصول أحجى وأحرى‏.‏

وأجاز أبو الحسن أظننت زيداً عمراً عاقلاً ونحو ذلك وامتنع منه أبو عثمان وقال‏:‏ استغنت العرب عن ذلك بقولهم‏:‏ جعلته يظنه عاقلاً‏.‏

ومن ذلك استغناؤهم بواحد عن اثنٍ وباثنين عن واحدين وبستة عن ثلاثتين وبعشرة عن خمستين وبعشرين عن عشرتين ونحو ذلك‏.‏

  باب في عكس التقدير

هذا موضع من العربية غريب‏.‏

وذلك أن تعتقد في أمر من الأمور حكماً ما وقتاماً ثم تحور في ذلك الشيء عينه في وقت آخر فتعتقد فيه حكماً آخر‏.‏

من ذلك الحكاية عن أبي عبيدة‏.‏

وهو قوله‏:‏ ما رأيت أطرف من أمر النحويين يقولون‏:‏ إن علامة التأنيث لا تدخل على علامة التأنيث وهم يقولون ‏"‏ علقاة ‏"‏ وقد قال العجاج‏:‏ فكر في علقي وفي مكور يريد أبو عبيدة أنه قال ‏"‏ في علقي ‏"‏ فلم يصرف التأنيث ثم قالوا مع هذا ‏"‏ علقاة ‏"‏ أي فألحقوا تاء التأنيث ألفه‏.‏

قال أبو عثمان‏:‏ كان أبو عبيدة أجفى من أن يعرف هذا‏.‏

وذلك أن من قال ‏"‏ علقاة ‏"‏ فالألف عنده للإلحاق بباب جعفر كألف ‏"‏ أرطى ‏"‏ فإذا نزع الهاء أحال اعتقاده الأول عما كان عليه وجعل الألف للتأنيث فيما بعد فيجعلها للإلحاق مع تاء التأنيث وللتأنيث إذا فقد التاء‏.‏

ولهذا نظائر‏.‏

هي قولهم‏:‏ بُهمي وبُهماة وشكاعى وشكاعاة وباقلى وباقلاة ونقاوى ونقاواة وسمانى وسماناة‏.‏

ومثل ذلك من الممدود قولهم‏:‏ طرفاء وطرفاءة وقصباء وقصباءة وحلفاء وحلفاءة وباقلاء وباقلاءة‏.‏

فمن قال‏:‏ ‏"‏ طرفاء ‏"‏ فالهمزة عنده للتأنيث ومن قال‏:‏ ‏"‏ طرفاءة ‏"‏ فالتاء عنده للتأنيث وأما الهمزة على قوله فزيادة لغير التأنيث‏.‏

وأقوى القولين فيها عندي أن تكون همزة مرتجلة غير منقلبة لأنها إذا كانت منقلبة في هذا المثال فإنها عن ألف التأنيث لا غير نحو صحراء وصلفاء وخبراء والحرشاء‏.‏

وقد يجوز أن تكون منقلبة عن حرف لغير الإلحاق فتكون - في الانقلاب لا في الإلحاق - كألف علباء وحرباء‏.‏

وهذا مما يؤكد عندك حال الهاء ألا ترى أنها إذا لحقت اعتقدت فيما قبلها حكماً ما فإن لم تلحق حار الحكم إلى غيره‏.‏

ونحو منه قولهم‏:‏ الصفنة والصفن والرضاع والرضاعة وهو صفو الشيء وصفوته وله نظائر قد ذكرت ومنه البرك والبركة للصدر‏.‏

ومن ذلك قولنا‏:‏ كان يقوم زيد ونحن نعتقد رفع ‏"‏ زيد ‏"‏ ب ‏"‏ كان ‏"‏ ويكون ‏"‏ يقوم ‏"‏ خبراً مقدماً عليه‏.‏

فإن قيل‏:‏ ألا تعلم أن ‏"‏ كان ‏"‏ إنما تدخل على الكلام الذي كان قبلها مبتدأ وخبراً وأنت إذا قلت‏:‏ يقوم زيد فإنما الكلام من فعل وفاعل فكيف ذلك فالجواب أنه لا يمتنع أن يعتقد مع ‏"‏ كان ‏"‏ في قولنا‏:‏ كان يقوم زيد أن زيداً مرتفع ب ‏"‏ كان ‏"‏ وأن ‏"‏ يقوم ‏"‏ مقدم عن موضعه فإذا حذفت ‏"‏ كان ‏"‏ زال الاتساع وتأخر الخبر الذي هو ‏"‏ يقوم ‏"‏ فصار بعد ‏"‏ زيد ‏"‏ كما أن ألف ‏"‏ علقاة ‏"‏ للإلحاق فإذا حذفت الهاء استحال التقدير فصارت للتأنيث حتى قال‏:‏ على ذا تأوله أبو عثمان ولم يحمله على أنهما لغتان‏.‏

وأظنه إنما ذهب إلى ذلك لما رآه قد كثرت نظائره نحو سمانى وسماناة وشكاعى وشكاعاة وبهمى وبهماة‏.‏

فألف ‏"‏ بهمى ‏"‏ للتأنيث وألف ‏"‏ بهماة ‏"‏ زيادة لغير الإلحاق كألف قبعثرى وضبغطرى‏.‏

ويجوز أن تكون للإلحاق بجخدب على قياس قول أبي الحسن الأخفش إلا أنه إلحاق اختص مع التأنيث ألا ترى أن أحداً لا ينون ‏"‏ بهمى ‏"‏ فعلى ذلك يكون الحكم على قولنا‏:‏ كان يقوم زيد ونحن نعتقد أن زيداً مرفوع بكان‏.‏

ومن ذلك ما نعتقده في همزاء حمراء وصفراء ونحوهما أنهما للتأنيث فإن ركبت الاسم مع آخر قبله حرت عن ذلك الاستشعار والتقدير فيها واعتقدت غيره‏.‏

وذلك أن تركب مع ‏"‏ حمراء ‏"‏ اسماً قبلها فتجعلهما جميعاً كاسم واحد فتصرف ‏"‏ حمراء ‏"‏ حينئذ‏.‏

وذلك قولك‏:‏ هذا دار حمراء ورأيت دار حمراء ومررت بدار حمراء وكذلك هذا كلبصفراء ورأيت كلبصفراء ومررت بكلبصفراء - فلا تصرف الاسم للتعريف والتركيب كحضرموت‏.‏

فإن نكرت صرفت فقلت‏:‏ رب كلبصفراءٍ مررت به - وكلبصفراء آخر‏.‏

فتصرف في النكرة وتعتقد في هذه الهمزة مع التركيب أنها لغير التأنيث وقد كانت قبل التركيب له‏.‏

ونحو من ذلك ما نعتقده في الألفات إذا كن في الحروف والأصوات أنها غير منقلبة وذلك نحو ألف لا وما وألف قاف وكاف ودال وأخواتها وألف على وإلى ولدى وإذا فإن نقلتها فجعلتها أسماء أو اشتققت منها فعلاً استحال ذلك التقدير واعتقدت فيها ما تعتقده في المنقلب‏.‏

وذلك قولك‏:‏ مويت إذا كتبت ‏"‏ ما ‏"‏ ولويت إذا كتبت ‏"‏ لا ‏"‏ وكوفت كافاً حسنة ودولت دالاً جيدة وزويت زاياً قوية‏.‏

ولو سميت رجلاً ب ‏"‏ على ‏"‏ أو ‏"‏ إلى ‏"‏ أو ‏"‏ لدى ‏"‏ أو ‏"‏ ألا ‏"‏ أو ‏"‏ إذا ‏"‏ لقلت في التثنية‏:‏ عَلَوان وإلَوان ولَدَوان وأَلَوان وإذَوَان فاعتقدت في هذه الألفات مع التسمية بها وعند الاشتقاق منها الانقلاب وقد كانت قبل ذلك عندك غير منقلبة‏.‏

وأغرب من ذلك قولك‏:‏ بأبي أنت‏!‏‏.‏

فالباء في أول الاسم حرف جر بمنزلة اللام في قولك‏:‏ لله أنت‏!‏ فإذا اشتققت منه فعلاً اشتقاقاً صوتياً استحال ذلك التقدير فقلت‏:‏ بأبأت به بئباء وقد أكثرت من البأبأة‏.‏

فالباء الآن في لفظ الأصل وإن كنا قد أحطنا علماً بأنها فيما اشتقت منه زائدة للجر‏.‏

ومثال البِئباء على هذا الفعلال كالزلزال والقلقال والبأبأة الفعللة كالقلقلة والزلزلة وعلى هذا اشتقوا منهما ‏"‏ البئب ‏"‏ فصار فعلاً من باب سلس وقلق قال‏:‏ يا بأبي أنت ويا فوق البئب‏!‏ فالبئب الآن بمنزلة الضلع والعنب والقمع والقرب‏.‏

ومن ذلك قولهم‏:‏ القرنوة للنبت وقالوا‏:‏ قرنيت السقاء إذا دبغته بالقرنوة فالياء في قرنيت الآن للإلحاق بمنزلة ياء سلقيت وجعبيت وإنما هي بدل من واو ‏"‏ قرنوة ‏"‏ التي هي لغير الإلحاق‏.‏

وسألني أبو علي - رحمه الله - عن ألف ‏"‏ يا ‏"‏ من قوله - فيما أنشده أبو زيد -‏:‏ فخيرٌ نحن عند الناس منكم إذا الداعي المثوب قال يا لا فقال‏:‏ أمنقلبة هي قلت‏:‏ لا لأنها في حرف أعني ‏"‏ يا ‏"‏ فقال‏:‏ بل هي منقلبة‏.‏

فاستدللته على ذلك فاعتصم بأنها قد خلطت باللام بعدها ووقف عليها فصارت كأنها جزء منها فصارت ‏"‏ يال ‏"‏ بمنزلة قال والألف في موضع العين وهي مجهولة فينبغي أن يحكم عليها بالانقلاب عن الواو‏.‏

هذا جمل ما قاله ولله هو وعليه رحمته فما كان أقوى قياسه وأشد بهذا العلم اللطيف الشريف أنسه‏.‏

فكأنه إنما كان مخلوقاً له‏.‏

وكيف كان لا يكون كذلك وقد أقام على هذه الطريقة مع جلة أصحابها وأعيان شيوخها سبعين سنة زائحة علله ساقطة عنه كلفه وجعله همه وسدمه لا يعتاقه عنه ولد ولا يعارضه فيه متجر ولا يسوم به مطلباً ولا يخدم به رئيساً إلا بأخرة وقد حط من أثقاله وألقى عصا ترحاله‏!‏ ثم إني - ولا أقول إلا حقاً - لأعجب من نفسي في وقتي هذا كيف تطوع لي بمسئلة أم كيف تطمح بي إلى انتزاع علة‏!‏ مع ما الحال عليه من علق الوقت وأشجانه وتذاؤبه وخلج أشطانه ولولا معازة الخاطر واعتناقه ومساورة الفكر واكتداده لكنت عن هذا الشأن بمعزل وبأمر سواه على شغل‏.‏

وقال لي مرة رحمه الله بهذه الانتقالات‏:‏ كما جاز إذا سميت ب ‏"‏ ضرب ‏"‏ أن تخرجه من البناء إلى الإعراب كذلك يجوز أيضاً أن تخرجه من جنس إلى جنس إذا أنت نقلته من موضعه إلى غيره‏.‏

ومن طريف ما ألقاه - رضي الله تعالى عنه - علي أنه سألني يوماً عن قولهم هات لا هاتيت فقال ‏"‏ ما هاتيت ‏"‏ فقلت‏:‏ فاعلت فهات من هاتيت كعاط من عاطيت فقال‏:‏ أشيء آخر فلم يحضر إذ ذاك فقال أنا أرى فيه غير هذا‏.‏

فسألته عنه فقال‏:‏ يكون فعليت قلت‏:‏ ممه قال‏:‏ من الهوتة وهي المنخفض من الأرض - قال‏:‏ وكذلك ‏"‏ هيت ‏"‏ لهذا البلد لأنه منخفض من الأرض - فأصله هوتيت ثم أبدلت الواو التي هي عين فعليت وإن كانت ساكنة كما أبدلت في ياجل وياحل فصار هاتيت وهذا لطيف حسن‏.‏

على أن صاحب العين قد قال‏:‏ إن الهاء فيه بدل من همزة كهرقت ونحوه‏.‏

والذي يجمع بين هاتيت وبين الهوتة حتى دعا ذلك أبا علي إلى ما قال به أن الأرض المنخفضة تجذب إلى نفسها بانخفاضها‏.‏

وكذلك قولك‏:‏ هات إنما هو استدعاء منك للشيء واجتذابه إليك‏.‏

وكذلك صاحب العين إنما حمله على اعتقاد بدل الهاء من الهمزة أنه أخذه من أتيت الشيء والإتيان ضرب من الانجذاب إلى الشيء‏.‏

والذي ذهب إليه أبو علي في ‏"‏ هاتيت ‏"‏ غريب لطيف‏.‏

ومما يستحيل فيه التقدير لانتقاله من صورة إلى أخرى قولهم ‏"‏ هلممت ‏"‏ إذا قلت‏:‏ هلم‏.‏

فهلممت الآن كصعررت وشمللت وأصله قبل غير هذا إنما هو أول ‏"‏ ها ‏"‏ للتنبيه لحقت مثال الأمر للمواجه توكيداً‏.‏

وأصلها ها لُمَّ فكثر استعمالها وخلطت ‏"‏ ها ‏"‏ ب ‏"‏ لم ‏"‏ توكيداً للمعنى لشدة الاتصال فحذفت الألف لذلك ولأن لام ‏"‏ لم ‏"‏ في الأصل ساكنة ألا ترى أن تقديرها أول ‏"‏ المم ‏"‏ وكذلك يقولها أهل الحجاز ثم زال هذا كله بقولهم ‏"‏ هلممت ‏"‏ فصارت كأنها فعللت من لفظ ‏"‏ الهلمام ‏"‏ وتنوسيت حال التركيب‏.‏

وكأن الذي صرفهما جميعاً عن ظاهر حاله حتى دعا أبا علي إلى أن جعله من ‏"‏ الهوتة ‏"‏ وغيره من لفظ أتيت عدم تركيب ظاهره ألا ترى أنه ليس في كلامهم تركيب ‏"‏ ه ت و ‏"‏ ولا ‏"‏ ه ت ي ‏"‏ فنزلا جميعاً عن بادي أمره إلى لفظ غيره‏.‏

فهذه طريق اختلاف التقدير وهي واسعة غير أني قد نبهت عليها فأمض الرأي والصنعة فيما يأتي منها‏.‏

ومن لفظ ‏"‏ الهوتة ‏"‏ ومعناها قولهم مضى هيتاء من الليل وهو فعلاء منه ألا تراهم قالوا‏:‏ قد تهور الليل ولو كسرت ‏"‏ هيتاء ‏"‏ لقلت ‏"‏ هواتي ‏"‏ وقريب من لفظه ومعناه قول الله سبحانه ‏{‏هَيْتَ لَكَ‏}‏ إنما معناه هلم لك وهذا اجتذاب واستدعاء له قال‏:‏ أن العراق وأهله عنق إليك فهيت هيتا

  باب في الفرق بين تقدير الإعراب وتفسير المعنى

هذا الموضع كثيراً ما يستهوي من يضعف نظره إلى أن يقوده إلى إفساد الصنعة‏.‏

وذلك كقولهم في تفسير قولنا ‏"‏ أهلَكَ والليلَ ‏"‏ معناه الحق أهلك قبل الليل فربما دعا ذاك من لا دربة له إلى أن يقول ‏"‏ أهلك والليل ‏"‏ فيجره وإنما تقديره الحق أهلك وسابق الليل‏.‏

وكذلك قولنا زيد قام‏:‏ ربما ظن بعضهم أن زيداً هنا فاعل في الصنعة كما أنه فاعل في المعنى‏.‏

وكذلك تفسير معنى قولنا‏:‏ سرني قيام هذا وقعود ذاك بأنه سرني أن قام هذا وأن قعد ذاك ربما اعتقد في هذا وذاك أنهما في موضع رفع لأنهما فاعلان في المعنى‏.‏

ولا تستصغر هذا الموضع فإن العرب أيضاً قد مرت به وشمت روائحه وراعته‏.‏

وذلك أن الأصمعي أنشد في جملة أراجيزه شعراً من مشطور السريع طويلاً ممدوداً مقيداً التزم الشاعر فيه أن جعل قوافيه كلها في موضع جر إلا بيتاً واحداً من الشعر‏:‏ يستمسكون من حذار الإلقاء بتلعات كجذوع الصيصاء رِدِي رِدِي وِردَ قطاة صماء كدرية أعجبها برد الماء كأنها وقد رآها الرؤاء والذي سوغه ذاك - على ما التزمه في جميع القوافي - ما كنا على سمته من القول‏.‏

وذلك أنه لما كان معناه‏:‏ كأنها في وقت رؤية الرؤاء تصور معنى الجر من هذا الموضع فجاز أن يخلط هذا البيت بسائر الأبيات وكأنه لذلك لم يخالف‏.‏

ونظير هذا عندي قول طرفة‏:‏ في جفان تعتري نادينا وسديف حين هاج الصِنَّبِر يريد الصِنَّبر فاحتاج للقافية إلى تحريك الباء فتطرق إلى ذلك بنقل حركة الإعراب إليها تشبيهاً بباب قولهم‏:‏ هذا بكر ومررت ببكر وكان يجب على هذا أن يضم الباء فيقول‏:‏ الصَنَّبُر لأن الراء مضمومة إلا أنه تصور معنى إضافة الظرف إلى الفعل فصار إلى أنه كأنه قال‏:‏ حين هيج الصنبر فلما احتاج إلى حركة الباء تصور معنى الجر فكسر الباء وكأنه قد نقل الكسرة عن الراء إليها‏.‏

ولولا ما أوردته في هذا لكان الضم مكان الكسر‏.‏

وهذا أقرب مأخذاً من أن تقول‏:‏ إنه حرّف القافية للضرورة كما حرفها الآخر في قوله‏:‏ هل عرفت الدار أم أنكرتها بين تبراك فشسَّى عبقُر وما دمية من دمى ميسنا ن معجبة نظراً واتصافا أراد - فيما قيل - ميسان فزاد النون ضرورة فهذا - لعمري - تحريف بتعجرف عار من الصنعة‏.‏

والذي ذهبت أنا إليه هناك في ‏"‏ الصنبِر ‏"‏ ليس عارياً من الصنعة‏.‏

فإن قلت‏:‏ فإن الإضافة في قوله ‏"‏ حين هاج الصنبر ‏"‏ إنما هي إلى الفعل لا إلى الفاعل فكيف حرفت غير المضاف إليه قيل الفعل مع الفاعل كالجزء الواحد وأقوى الجزأين منهما هو الفاعل فكأن الإضافة إنما هي إليه لا إلى الفعل فلذلك جاز أن يتصور فيه معنى الجر‏.‏

فإن قيل‏:‏ فأنت إذا أضفت المصدر إلى الفاعل جررته في اللفظ واعتقدت مع هذا أنه في المعنى مرفوع فإذا كان في اللفظ أيضاً مرفوعاً فكيف يسوغ لك بعد حصوله في موضعه من استحقاقه الرفع لفظاً ومعنى أن تحور به فتتوهمه مجروراً قيل هذا الذي أردناه وتصورناه هو مؤكد للمعنى الأول لأنك كما تصورت في المجرور معنى الرفع كذلك تممت حال الشبه بينهما فتصورت في المرفوع معنى الجر‏.‏

ألا ترى أن سيبويه لما شبه الضارب الرجل بالحسن الوجه وتمثل ذلك في نفسه ورسا في تصوره زاد في تمكين هذه الحال له وتثبيتها عليه بأن عاد فشبه الحسن الوجه بالضارب الرجل في الجر كل ذلك تفعله العرب وتعتقده العلماء في الأمرين ليقوى تشابههما وتعمر ذات بينهما ولا يكونا على حرد وتناظر غير مجد فاعرف هذا من ومن ذلك قولهم في قول العرب‏:‏ كل رجل وصنعته وأنت وشأنك‏:‏ معناه أنت مع شأنك وكل رجل مع صنعته فهذا يوهم من أمم أن الثاني خبر عن الأول كما أنه إذا قال أنت مع شأنك فإن قوله ‏"‏ مع شأنك ‏"‏ خبر عن أنت‏.‏

وليس الأمر كذلك بل لعمري إن المعنى عليه غير أن تقدير الأعراب على غيره‏.‏

وإنما ‏"‏ شأنك ‏"‏ معطوف على ‏"‏ أنت ‏"‏ والخبر محذوف للحمل على المعنى فكأنه قال‏:‏ كل رجل وصنعته مقرونان وأنت وشأنك مصطحبان‏.‏

وعليه جاء العطف بالنصب مع أن قال‏:‏ أغار على معزاي لم يدر أنني وصفراء منها عبلة الصفوات ومن ذلك قولهم أنت ظالم إن فعلت ألا تراهم يقولون في معناه‏:‏ إن فعلت فأنت ظالم فهذا ربما أوهم أن ‏"‏ أنت ظالم ‏"‏ جواب مقدم ومعاذ الله أن يقدم جواب الشرط عليه وإنما قوله ‏"‏ أنت ظالم ‏"‏ دال على الجواب وساد مسده فأما أن يكون هو الجواب فلا‏.‏

ومن ذلك قولهم في عليك زيداً‏:‏ إن معناه خذ زيداً وهو - لعمري - كذلك إلا أن ‏"‏ زيداً ‏"‏ الآن إنما هو منصوب بنفس ‏"‏ عليك ‏"‏ من حيث كان اسماً لفعل متعد لا أنه منصوب ب ‏"‏ خذ ‏"‏‏.‏

ألا ترى إلى فرق ما بين تقدير الإعراب وتفسير المعنى فإذا مر بك شيء من هذا عن أصحابنا فاحفظ نفسك منه ولا تسترسل إليه فإن أمكنك أن يكون تقدير الإعراب على سمت تفسير المعنى فهو ما لا غاية وراءه وإن كان تقدير الإعراب مخالفاً لتفسير المعنى تقبلت تفسير المعنى على ما هو عليه وصححت طريق تقدير الإعراب حتى لا يشذ شيء منها عليك وإياك أن تسترسل فتفسد ما تؤثر إصلاحه ألا تراك تفسر نحو قولهم‏:‏ ضربت زيداً سوطاً أن معناه ضربت زيداً ضربة بسوط‏.‏

وهو - لا شك - كذلك ولكن طريق إعرابه أنه على حذف المضاف أي ضربته ضربة سوط ثم حذفت الضربة على عبرة حذف المضاف‏.‏

ولو ذهبت تتأول ضربته سوطاً على أن تقدير إعرابه‏:‏ ضربة بسوط كما أن معناه كذلك للزمك أن تقدر أنك حذفت الباء كما تحذف حرف الجر في نحو قوله‏:‏ أمرتك الخير وأستغفر الله ذنباً فتحتاج إلى اعتذار من حذف حرف الجر وقد غنيت عن ذلك كله بقولك‏:‏ إنه على حذف المضاف أي ضربة سوط ومعناه ضربة بسوط فهذا - لعمري - معناه فأما طريق إعرابه وتقديره فحذف المضاف‏.‏

  باب في أن المحذوف إذا دلت الدلالة عليه كان في حكم الملفوظ به

إلا أن يعترض هناك من صناعة اللفظ ما يمنع منه من ذلك أن ترى رجلاً قد سدد سهماً نحو الغرض ثم أرسله فتسمع صوتاً فتقول‏:‏ القرطاس والله أي أصاب القرطاس‏.‏

ف ‏"‏ أصاب ‏"‏ الآن في حكم الملفوظ به البتة وإن لم يوجد في اللفظ غير أن دلالة الحال عليه نابت مناب اللفظ به‏.‏

وكذلك قولهم لرجل مهو بسيف في يده‏:‏ زيداً أي اضرب زيداً‏.‏

فصارت شهادة الحال بالفعل بدلاً من اللفظ به‏.‏

وكذلك قولك للقادم من سفر‏:‏ خير مقدم أي قدمت خير مقدم وقولك‏:‏ قد مررت برجل إن زيداً وإن عمراً أي إن كان زيداً وإن كان عمراً وقولك للقادم من حجه‏:‏ مبرور مأجور أي أنت مبرور مأجور ومبروراً مأجوراً أي قدمت مبروراً مأجوراً وكذلك قوله‏:‏ رسم دار وقفت في طلله كدت أقضي الغداة من جلله أي رب رسم دار‏.‏

وكان رؤبة إذا قيل له كيف أصبحت يقول‏:‏ خير عافاك الله - أي بخير - يحذف الباء لدلالة الحال عليها بجري العادة والعرف بها‏.‏

وكذلك قولهم‏:‏ الذي ضربت زيد تريد الهاء وتحذفها لأن في الموضع دليلاً عليها‏.‏

وعلى نحو من هذا تتوجه عندنا قراءة حمزة وهي قوله سبحانه ‏"‏ واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامِ ‏"‏ ليست هذه القراءة عندنا من الإبعاد والفحش والشناعة والضعف على ما رآه فيها وذهب إليه أبو العباس بل الأمر فيها دون ذلك وأقرب وأخف وألطف وذلك أن لحمزة أن يقول لأبي العباس‏:‏ إنني لم أحمل ‏"‏ الأرحام ‏"‏ على العطف على المجرور المضمر بل اعتقدت أن تكون فيه باء ثانية حتى كأني قلت‏:‏ ‏"‏ وبالأرحام ‏"‏ ثم حذفت الباء لتقدم ذكرها كما حذفت لتقدم ذكرها في نحو قولك‏:‏ بمن تمرر أمرر وعلى من تنزل أنزل ولم تقل‏:‏ أمرر به ولا أنزل عليه لكن حذفت الحرفين لتقدم ذكرهما‏.‏

وإذا جاز للفرزدق أن يحذف حرف الجر لدلالة ما قبله عليه ‏"‏ مع مخالفته له في الحكم ‏"‏ في قوله‏:‏ وإني من قوم بهم يتقى العدا ورأب الثأى والجانب المتخوف أراد‏:‏ وبهم رأب الثأى فحذف الباء في هذا الموضع لتقدمها في قوله‏:‏ بهم يتقى العدا وإن كانت حالاهما مختلفتين‏.‏

ألا ترى أن الباء في قوله ‏"‏ بهم يتقى العدا ‏"‏ منصوبة الموضع لتعلقها بالفعل الظاهر الذي هو يتقى كقولك‏:‏ بالسيف يضرب زيد والباء في قوله‏:‏ ‏"‏ وبهم رأب الثأى ‏"‏ مرفوعة الموضع عند قوم وعلى كل حال فهي متعلقة بمحذوف ورافعه الرأب - ونظائر هذا كثيرة - كان حذف الباء من قوله ‏"‏ والأرحام ‏"‏ لمشابهتها الباء في ‏"‏ به ‏"‏ موضعاً وحكماً أجدر وقد أجازوا تباً له وويل على تقدير وويل له فحذفوها وإن كانت اللام في ‏"‏ تباً له ‏"‏ لا ضمير فيها وهي متعلقة بنفس ‏"‏ تباً ‏"‏ مثلها في هلم لك وكانت اللام في ‏"‏ ويل له ‏"‏ خبراً ومتعلقة بمحذوف وفيها ضمير فهذا عروض بيت الفرزدق‏.‏

فإن قلت‏:‏ فإذا كان المحذوف للدلالة عليه عندك بمنزلة الظاهر فهل تجيز توكيد الهاء المحذوفة في نحو قولك‏:‏ الذي ضربت زيد فتقول‏:‏ الذي ضربت نفسه زيد كما تقول‏:‏ الذي ضربته نفسه زيد قيل‏:‏ هذا عندنا غير جائز وليس ذلك لأن المحذوف هنا ليس بمنزلة المثبت بل لأمر آخر وهو أن الحذف هنا إنما الغرض به التخفيف لطول الاسم فلو ذهبت تؤكده لنقضت الغرض‏.‏

وذلك أن التوكيد والإسهاب ضد التخفيف والإيجاز فلما كان الأمر كذلك تدافع الحكمان فلم يجز أن يجتمعا كما لا يجوز ادغام الملحق لما فيه من نقض الغرض‏.‏

وكذلك قولهم لمن سدد سهماً ثم أرسله نحو الغرض فسمعت صوتاً فقلت‏:‏ القرطاس والله أي أصاب القرطاس‏:‏ لا يجوز توكيد الفعل الذي نصب ‏"‏ القرطاس ‏"‏‏.‏

لو قلت‏:‏ إصابةً القرطاس فجعلت ‏"‏ إصابة ‏"‏ مصدراً للفعل الناصب للقرطاس لم يجز من قبل أن الفعل هنا قد حذفته العرب وجعلت الحال المشاهدة دالة عليه ونائبة عنه فلو أكدته لنقضت الغرض لأن في توكيده تثبيتاً للفظه المختزل ورجوعاً عن المعتزم من حذفه واطراحه والاكتفاء بغيره منه‏.‏

وكذلك قولك للمهوي بالسيف في يده‏:‏ زيداً أي اضرب زيداً لم يجز أن تؤكد ذلك الفعل الناصب لزيد ألا تراك لا تقول‏:‏ ضرباً زيداً وأنت تجعل ‏"‏ ضرباً ‏"‏ توكيداً لاضرب المقدرة من قبل أن تلك اللفظة قد أنيبت عنها الحال الدالة عليها وحذفت هي اختصاراً فلو أكدتها لنقضت القضية التي كنت حكمت بها لها لكن لك أن تقول‏:‏ ضرباً زيداً لا على أن تجعل ضرباً توكيداً للفعل الناصب لزيد بل على أن تبدله منه فتقيمه مقامه فتنصب به زيداً فأما على التوكيد به لفعله وأن يكون زيد منصوباً بالفعل الذي هذا توكيد له فلا‏.‏

فهذه الأشياء لولا ما عرض من صناعة اللفظ - أعني الاقتصار على شيء دون شيء - لكان توكيدها جائزاً حسناً لكن ‏"‏ عارض ما منع ‏"‏ فلذلك لم يجز لا لأن المحذوف ليس في تقدير الملفوظ به‏.‏

ومما يؤكد لك أن المحذوف للدلالة عليه بمنزلة الملفوظ به إنشادهم قول الشاعر‏:‏ قاتلي القوم يا خزاع ولا يأخذكم من قتالهم فشل فتمام الوزن أن يقال‏:‏ فقاتلي القوم فلولا أن المحذوف إذا دل الدليل عليه بمنزلة المثبت لكان هذا كسراً لا زخافاً‏.‏

وهذا من أقوى وأعلى ما يحتج به لأن المحذوف للدلالة عليه بمنزلة الملفوظ به البتة فاعرفه واشدد يدك به‏.‏

وعلى الجملة فكل ما حذف تخفيفاً فلا يجوز توكيده لتدافع حاليه به من حيث التوكيد للإسهاب والإطناب والحذف للاختصار والإيجاز‏.‏

فاعرف ذلك مذهباً للعرب‏.‏

ومما يدلك على صحة ذلك قول العرب - فيما رويناه عن محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى -‏:‏ ‏"‏ راكب الناقة طليحان ‏"‏ كذا رويناه هكذا وهو يحتمل عندي وجهين‏:‏ أحدهما ما نحن عليه من الحذف فكأنه قال‏:‏ راكب الناقة والناقة طليحان فحذف المعطوف لأمرين‏:‏ أحدهما تقدم ذكر الناقة والشيء إذا تقدم ذكره دل على ما هو مثله‏.‏

ومثله من حذف المعطوف قول الله عز وجل ‏{‏فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً‏}‏ أي فضرب فانفجرت‏.‏

فحذف ‏"‏ فضرب ‏"‏ لأنه معطوف على قوله‏:‏ ‏"‏ فقلنا ‏"‏‏.‏

وكذلك قول التغلبي‏:‏ إذا ما الماء خالطها سخينا أي شربنا فسخينا‏.‏

فكذلك قوله‏:‏ راكب الناقة طليحان أي راكب الناقة والناقة طليحان‏.‏

فإن قلت‏:‏ فهلا كان التقدير على حذف المعطوف عليه أي الناقة وراكب الناقة طليحان قيل يبعد ذلك من وجهين‏:‏ أحدهما أن الحذف اتساع والاتساع بابه آخر الكلام وأوسطه لا صدره وأوله ألا ترى أن من اتسع بزيادة ‏"‏ كان ‏"‏ حشواً أو آخراً لا يجيز زيادتها أولاً وأن من اتسع بزيادة ‏"‏ ما ‏"‏ حشواً وغير أول لم يستجز زيادتها أولاً إلا في شاذ من القول نحو قوله‏:‏ وقد ما هاجني فازددت شوقاً بكاء حمامتين تجاوبان فيمن رواه ‏"‏ وقدما ‏"‏ بزيادة ‏"‏ ما ‏"‏ على أنه يريد‏:‏ وقد هاجني لا فيمن رواه فقال‏:‏ ‏"‏ وقدماً هاجني ‏"‏ أي وقديماً هاجني‏.‏

والآخر أنه لو كان تقديره‏:‏ الناقة وراكب الناقة طليحان لكان قد حذف حرف العطف وبقي المعطوف به وهذا شاذ إنما حكى منه أبو عثمان عن أبي زيد‏:‏ أكلت لحماً سمكاً تمراً وأنشد أبو الحسن‏:‏ كيف أصبحت كيف أمسيت مما يزرع الود في فؤاد الكريم وأنشد ابن الأعرابي‏:‏ وكيف لا أبكي على علاتي صبائحي غبائقي قيلاتي وهذا كله شاذ ولعله جميع ما جاء منه‏.‏

وأما على القول الآخر فإنه - لعمري - قد حذف حرف العطف مع المعطوف به وهذا ما لا بد منه ألا ترى أنه إذا حذف المعطوف لم يجز أن قد وعدتني أم عمرو أن تا تدهن رأسي وتفليني وا وتمسح القنفاء حتى تنتا فإنما جاز هذا لضرورة الشعر ولأنه أيضاً قد أعاد الحرف في أول البيت الثاني فجاز تعليق الأول بعد أن دعمه بحرف الإطلاق وأعاده فعرف ما أراد بالأول فجرى مجرى قوله‏:‏ عجل لنا هذا وألحقنا بذا ال الشحم إنا قد مللناه بجل فكما علق حرف التعريف مدعوماً بألف الوصل وأعاده فيما بعد فكذلك علق حرف العطف مدعوماً بحرف الإطلاق وأعاده فيما بعد‏.‏

فإن قلت‏:‏ فألف قوله ‏"‏ وا ‏"‏ ملفوظ بها وألف الوصل في قوله ‏"‏ بذا ال ‏"‏ غير ملفوظ بها قيل‏:‏ لو ابتدأت اللام لم يكن من الهمزة بد‏.‏

فإن قلت‏:‏ أفيجوز على هذا ‏"‏ قام زيد وه وعمرو ‏"‏ فتجري هاء بيان الحركة ألف الإطلاق فإنه أضعف القياسين‏.‏

وذلك أن ألف الإطلاق أشبه بما صيغ في الكلمة من هاء بيان الحركة ألا ترى إلى ما جاء من قوله‏:‏ ولاعب بالعشي بني بنينه كفعل الهر يحترش العظايا فأبعده الإله ولا يؤبى ولا يسقى من المرض الشفايا - وقرأته على أبي علي‏:‏ ولا يشفى - ألا ترى أن أبا عثمان قال‏:‏ شبه ألف الإطلاق بتاء التأنيث أي فصحح اللام لها كما يصححها للهاء وليست كذلك هاء بيان الحركة لأنها لم تقو قوة تاء التأنيث أولا ترى أن ياء الإطلاق في قوله‏:‏ ‏.‏

كله لم أصنعي قد نابت عن الضمير العائد حتى كأنه قال‏:‏ لم أصنعه فلذلك كان ‏"‏ وا ‏"‏ من قوله ‏"‏ وتفليني وا ‏"‏ كأنه لاتصاله بالألف غير معلق‏.‏

فإذا كان في اللفظ كأنه غير معلق وعاد من بعد معطوفاً به لم يكن هناك كبير مكروه فيعتذر منه‏.‏

فإن قلت‏:‏ فإن هاء بيان الحركة قد عاقبت لام الفعل نحو ارمه واغزه واخشه فهذا يقويها فإنه موضع لا يجوز أن يسوى به بينها وبين ألف الإطلاق‏.‏

والوجه الآخر الذي لأجله حسن حذف المعطوف أن الخبر جاء بلفظ التثنية فكان ذلك دليلاً على أن المخبر عنه اثنان‏.‏

فدل الخبر على حال المخبر عنه‏.‏

إذ كان الثاني هو الأول‏.‏

فهذا أحد وجهي ما تحتمله الحكاية‏.‏

والآخر أن يكون الكلام محمولاً على حذف المضاف أي راكب الناقة أحد طليحين كما يحتمل ذلك قوله سبحانه ‏{‏يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ‏}‏ أي من أحدهما وقد ذهب فيه إليه فيما حكاه أبو الحسن‏.‏

فالوجه الأول وهو ما كنا عليه‏:‏ من أن المحذوف من اللفظ إذا دلت الدلالة عليه كان بمنزلة الملفوظ به ألا ترى أن الخبر لما جاء مثنى دل على أن المخبر عنه مثنى نقض المراتب إذا

عرض عارض

باب في نقض المراتب إذا عرض هناك عارض

من ذلك امتناعهم من تقديم الفاعل في نحو ضرب غلامه زيداً‏.‏ فهذا لم يمتنع من حيث كان الفاعل ليس رتبته التقديم وإنما امتنع لقرينة انضمت إليه وهي إضافة الفاعل إلى ضمير المفعول وفساد تقدم المضمر على مظهره لفظاً ومعنى‏.‏

فلهذا وجب إذا أردت تصحيح المسئلة أن تؤخر الفاعل فتقول‏:‏ ضرب زيداً غلامه وعليه قول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ‏}‏ وأجمعوا على أن ليس بجائز ضرب غلامه زيداً لتقدم المضمر على مظهره لفظاً ومعنى‏.‏

وقالوا في قول النابغة‏:‏ جزى ربه عني عدي بن حاتم جزاء الكلاب العاويات وقد فعل إن الهاء عائدة على مذكور متقدم كل ذلك لئلا يتقدم ضمير المفعول عليه مضافاً ‏"‏ إلى الفاعل ‏"‏ فيكون مقدماً عليه لفظاً ومعنى‏.‏

وأما أنا فأجيز أن تكون الهاء في قوله‏:‏ جزى ربه عني عدي بن حاتم عائدة على عدي خلافاً على الجماعة‏.‏

فإن قيل‏:‏ ألا تعلم أن الفاعل رتبته التقدم والمفعول رتبته التأخر فقد وقع كل منهما الموقع الذي هو أولى به فليس لك أن تعتقد في الفاعل وقد وقع مقدماً أن موضعه التأخير وإنما المأخوذ به في ذلك أن يعتقد في الفاعل إذا وقع مؤخراً أن موضعه التقديم فإذا وقع مقدماً فقد أخذ مأخذه ورست به قدمه‏.‏

وإذا كان كذلك فقد وقع المضمر قبل مظهره لفظاً ومعنى‏.‏

وهذا ما لا يجوزه القياس‏.‏

قيل‏:‏ الأمر وإن كان ظاهره ما تقوله فإن هنا طريقاً آخر يسوغك غيره وذلك أن المفعول قد شاع عنهم واطرد من مذاهبهم كثرة تقدمه على الفاعل حتى دعا ذاك أبا علي إلى أن قال‏:‏ إن تقدم المفعول على الفاعل قسم أيضاً قائم برأسه وإن كان تقديم الفاعل أكثر وقد جاء به الاستعمال مجيئاً واسعاً نحو قول الله عز وجل ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء‏}‏ وقول ذي الرمة‏:‏ أستحدث الركب من أشياعهم خبراً أم عاود القلب من أطرابه طرب وقول معقر بن حمار البارقي‏:‏ أجد الركب بعد غد خفوف وأمست من لبانتك الألوف وقول دُرنى بنت عبعبة‏:‏ وقول لبيد‏:‏ فمدافع الريان عُرِّيَ رسمها خلقاً كما ضمن الوُحِيَّ سِلامها ومن أبيات الكتاب‏:‏ اعتاد قلبك من سلمى عوائده وهاج أهواءك المكنونة الطلل فقدم المفعول في المصراعين جميعاً وللبيد أيضاً‏:‏ رزقت مرابيع النجوم وصابها ودق الرواعد جودها فرهامها وله أيضاً‏:‏ لمعفر قهد تنازع شلوه غبس كواسب ما يمن طعامها وقال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ‏}‏ وقال الآخر‏:‏ أبعدك الله من قلب نصحت له في حب جمل ويأبى غير عصياني وقال المرقش الأكبر‏:‏ لم يشج قلبي مِلحوادث إل لا صاحبي المتروك في تغلم وفيها‏:‏ في باذخات من عماية أو يرفعه دون السماء خيم والأمر في كثرة تقديم المفعول على الفاعل في القرآن وفصيح الكلام متعالم غير مستنكر فلما كثر وشاع تقديم المفعول على الفاعل كان الموضع له حتى إنه إذا أخر فموضعه التقديم فعلى ذلك كأنه قال‏:‏ جزى عديَّ بن حاتم ربُّه ثم قدم الفاعل على أنه قد قدره مقدماً عليه مفعوله فجاز ذلك ولا تستنكر هذا الذي صورته لك ولا يجف عليك فإنه مما تقبله هذه اللغة ولا تعافه ولا تتبشعه ألا ترى أن سيبويه أجاز في جر الوجه من قولك‏:‏ هذا الحسن الوجهِ أن يكون من موضعين‏:‏ أحدهما بإضافة الحسن إليه والآخر تشبيه له بالضارب الرجل هذا مع أنا قد أحطنا علماً بأن الجر في الرجل من قولك‏:‏ هذا الضارب الرجل إنما جاءه وأتاه من جهة تشبيههم إياه بالحسن الوجه لكن لما اطرد الجر في نحو هذا الضارب الرجل والشاتم الغلام صار كأنه أصل في بابه حتى دع ذاك سيبويه إلى أن عاد ‏"‏ فشبه الحسن الوجه ‏"‏ بالضارب الرجل - من الجهة التي إنما صحت للضارب الرجل تشبيهاً بالحسن الوجه - وهذا يدلك على تمكن الفروع عندهم حتى إن أصولها التي أعطتها حكماً من أحكامها قد حارت فاستعادت من فروعها ما كانت هي أدته إليها وجعلته عطية منها لها فكذلك أيضاً يصير تقديم المفعول لما استمر وكثر كأنه هو الأصل وتأخير الفاعل كأنه أيضاً هو الأصل‏.‏

فإن قلت إن هذا ليس مرفوعاً إلى العرب ولا محكياً عنها أنها رأته مذهباً وإنما هو شيء رآه سيبويه واعتقده قولاً ولسنا نقلد سيبويه ولا غيره في هذه العلة ولا غيرها فإن الجواب عن هذا حاضر عتيد والخطب فيه أيسر وسنذكره في باب يلي هذا بإذن الله‏.‏

ويؤكد أن الهاء في ‏"‏ ربه ‏"‏ لعدي بن حاتم من جهة المعنى عادة العرب في الدعاء ألا تراك لا تكاد تقول‏:‏ جزى رب زيد عمراً وإنما يقال‏:‏ جزاك ربك خيراً أو شراً‏.‏

وذلك أوفق لأنه إذا كان مجازيه ربه كان أقدر على جزائه وأملأ به‏.‏

ولذلك جرى العرف بذلك فاعرفه‏.‏

ومما نقضت مرتبته المفعول في الاستفهام والشرط فإنهما يجيئان مقدمين على الفعلين الناصبين لهما وإن كانت رتبة المعمول أن يكون بعد العامل فيه‏.‏

وذلك قوله سبحانه وتعالى ‏{‏وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ‏}‏ ف ‏"‏ أي منقلب ‏"‏ منصوب على المصدر ب ‏"‏ ينقلبون ‏"‏ لا ب ‏"‏ سيعلم ‏"‏ وكذلك قوله تعالى ‏"‏ أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي ‏"‏ وقال ‏{‏أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى‏}‏ فهذا ونحوه لم يلزم تقديمه من حيث كان مفعولاً‏.‏

وكيف يكون ذلك وقد قال عز اسمه ‏{‏وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا‏}‏ وقال تعالى ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ‏}‏ وقال ‏{‏يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ‏}‏ وقال ‏{‏قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ‏}‏ وهو ملء الدنيا كثرة وسعة لكن إنما وجب تقديمه لقرينة انضمت إلى ذلك وهي وجوب تقدم الأسماء المستفهم بها والأسماء المشروط بها‏.‏

فهذا من النقض العارض‏.‏

ومن ذلك وجوب تأخير المبتدأ إذا كان نكرة وكان الخبر عنه ظرفاً نحو قولهم‏:‏ عندك مال وعليك دين وتحتك بساطان ومعك ألفان‏.‏

فهذه الأسماء كلها مرفوعة بالابتداء ومواضعها التقديم على الظروف قبلها التي هي أخبار عنها إلا أن مانعاً منع من ذلك حتى لا تقدمها عليها ألا ترى أنك لو قلت‏:‏ غلام لك أو بساطان تحتك ونحو ذلك لم يحسن لا لأن المبتدأ ليس موضعه التقديم لكن لأمر حدث وهو كون المبتدأ هنا نكرة ألا تراه لو كان معرفة لاستمر وتوجه تقديمه فتقول‏:‏ البساطان تحتك والغلام لك‏.‏

أفلا ترى أن ذلك إنما فسد تقديمه لما ذكرناه‏:‏ من قبح تقديم المبتدأ نكرة في الواجب ولكن لو أزلت الكلام إلى غير الواجب لجاز تقديم النكرة كقولك‏:‏ هل غلام عندك وما بساط تحتك فجنيت الفائدة من حيث كنت قد أفدت بنفيك عنه كون البساط تحته واستفهامك عن الغلام‏:‏ أهو عنده أم لا إذ كان هذا معنى جلياً مفهوماً‏.‏

ولو أخبرت عن النكرة في الإيجاب مقدمة فقلت‏:‏ رجل عندك كنت قد أخبرت عن منكور لا يعرف وإنما ينبغي أن تقدم المعرفة ثم تخبر عنها بخبر يستفاد منه معنى منكور نحو زيد عندك ومحمد منطلق وهذا واضح‏.‏

فإن قلت‏:‏ فلم وجب مع هذا تأخير النكرة في الإخبار عنها بالواجب قيل لما قبح ابتداؤها نكرة لما ذكرناه رأوا تأخيرها وإيقاعها في موقع الخبر الذي بابه أن يكون نكرة فكان ذلك إصلاحاً للفظ كما أخروا اللام لام الابتداء مع ‏"‏ إن ‏"‏ في قولهم‏:‏ إن زيداً لقائم لإصلاح اللفظ‏.‏

وسترى ذلك في بابه بعون الله وقدرته‏.‏

فاعلم إذاً أنه لا تنقض مرتبة إلا لأمر حادث فتأمله وابحث عنه‏.‏

  باب من غلبة الفروع على الأصول

هذا فصل من فصول العربية طريف تجده في معاني العرب كما تجده في معاني الإعراب‏.‏

ولا تكاد تجد شيئاً من ذلك إلا والغرض فيه المبالغة‏.‏

فمما جاء فيه ذلك للعرب قول ذي الرمة‏:‏ ورمل كأوراك العذارى قطعته إذا ألبسته المظلمات الحنادس أفلا ترى ذا الرمة كيف جعل الأصل فرعاً والفرع أصلاً‏.‏

وذلك أن العادة والعرف في نحو هذا أن تشبه أعجاز النساء بكثبان الأنقاء ألا ترى إلى قوله‏:‏ ليلى قضيب تحته كثيب وفي القلاد رَشَأٌ ربيب وإلى قول ذي الرمة أيضاً - وهو من أبيات الكتاب -‏:‏ ترى خلفها نصفاً قناة قويمة ونصفاً نقاً يرتج أو يتمرمر وإلى قول الآخر‏:‏ خلقت غير خلقة النسوان إن قمت فالأعلى قضيب بان وإلى قوله‏:‏ كدِعص النقا يمشي الوليدان فوقه بما احتسبا من لين مس وتسهال وما أحسن ما ساق الصنعة فيه الطائي الكبير‏:‏ كم أحرزت قضب الهندي مصلتةً تهتز من قضب تهتز في كثب ولله البحتري فما أعذب وأظرف وأدمث قوله‏:‏ أين الغزال المستعير من التقا كفلاً ومن نور الأقاحي مبسما فقلب ذو الرمة العادة والعرف في هذا فشبه كثبان الأنقاء بأعجاز النساء‏.‏

وهذا كأنه يخرج مخرج المبالغة أي قد ثبت هذا الموضع وهذا المعنى لأعجاز النساء وصار كأنه الأصل فيه حتى شبه به كثبان الأنقاء‏.‏

ومثله للطائي الصغير‏:‏ في طلعة البدر شيء من ملاحتها وللقضيب نصيب من تثنيها وآخر من جاء به شاعرنا فقال‏:‏ نحن ركب مِلجِنِّ في زي ناس فوق طير لها شخوص الجمال فجعل كونهم جناً أصلاً وجعل كونهم ناساً فرعاً وجعل كون مطاياه طيراً أصلاً وكونها جمالاً فرعاً فشبه الحقيقة بالمجاز في المعنى الذي منه أفاد المجاز من الحقيقة ما أفاد‏.‏

وعلى نحو جمالية تغتلي بالردف إذا كذب الآثمات الهجيرا وقال الراعي‏:‏ على جمالية كالفحل هملاج وهو كثير‏.‏

فلما شاع ذلك واطرد صار كأنه أصل في بابه حتى عادوا فشبهوا الجمل بالناقة في ذلك فقال‏:‏ وقربوا كل جُمالي عَضِه قريبةٍ ندوتُه من مَحمَضِه فهذا من حملهم الأصل على الفرع فيما كان الفرع أفاده من الأصل ونظائره في هذه اللغة كثيرة‏.‏

وهذا المعنى عينه قد استعمله النحويون في صناعتهم فشبهوا الأصل بالفرع في المعنى الذي أفاده ذلك الفرع من ذلك الأصل ألا ترى أن سيبويه أجاز في قولك‏:‏ هذا الحسن الوجه أن يكون الجر في الوجه من موضعين أحدهما الإضافة والآخر تشبيهه بالضارب الرجل الذي إنما جاز فيه الجر تشبيهاً له بالحسن الوجه على ما تقدم في الباب قبل هذا‏.‏

فإن قيل‏:‏ وما الذي سوغ سيبويه هذا وليس مما يرويه عن العرب رواية وإنما هو شيء رآه واعتقده لنفسه وعلل به قيل يدل على صحة ما رآه من هذا وذهب إليه ما عرفه وعرفناه معه‏:‏ من أن العرب إذا شبهت شيئاً بشيء مكنت ذلك الشبه لهما وعمرت به الحال بينهما ألا تراهم لما شبهوا الفعل المضارع بالاسم فأعربوه تمموا ذلك المعنى بينهما بأن شبهوا اسم الفاعل بالفعل فأعملوه‏.‏

وكذلك لما شبهوا الوقف بالوصل في نحو قولهم ‏"‏ عليه السلام والرحمت ‏"‏ وقوله‏:‏ بل جوزتيهاء كظهر الحجفت وقوله‏:‏ آلله نجاك بكفي مَسلمت من بعدما وبعدما وبعدمت صارت نفوس القوم عند الغلصمت وكادت الحرة أن تدعى أمت كذلك شبهوا أيضاً الوصل بالوقف في قولهم‏:‏ ثلاثهَ اربعه يريد ثلاثه أربعه ثم تخفف الهمزة فتقول‏:‏ ثلاثهَ اربَعَه وفي قولهم‏:‏ ‏"‏ سبسبَّا وكلكلاّ ‏"‏‏.‏

وكما أجروا غير اللازم مجرى اللازم في قولهم‏:‏ ‏"‏ لَحمر ورُيا ‏"‏ وقولهم‏:‏ وَهْوَ الله وَهْيَ التي فعلتْ وقوله‏:‏ فقمت للطيف مرتاعاً وأرقني فقلت أهي سرت أم عادني حلم وقولهم ها الله ذا أجروه مجرى دابة وقوله‏:‏ ومن يتق فإن الله معه ورزق الله مؤتابٌ وغادي أجرى ‏"‏ تق ف ‏"‏ مجرى علم حتى صار ‏"‏ تقف ‏"‏ كعلم كذلك أيضاً أجروا اللازم مجرى غير اللازم في قول الله سبحانه ‏{‏أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى‏}‏ فأجرى النصب مجرى الرفع الذي لا تلزم فيه الحركة ومجرى الجزم الذي لا يلزم فيه الحرف أصلاً وكما حمل النصب على الجر في التثنية والجمع الذي على حد التثينة كذلك حمل الجر على النصب فيما لا ينصرف وكما شبهت الياء بالألف في قوله‏:‏ كأن أيديهن بالقاع القَرِق وقوله‏:‏ يا دار هند عفت إلا أثافيها كذلك حملت الألف على الياء في قوله - فيما أنشد أبو زيد -‏:‏ إذا العجوز غضبت فطلق ولا ترضّاها ولا تملَّق وكما وضع الضمير المنفصل موضع المتصل في قوله‏:‏ إليك حتى بلغت إياكا ومنه قول أمية‏:‏ بالوارث الباعث الأموات قد ضمنت إياهم الأرض في دهر الدهارير فما نبالي إذا ما كنت جارتنا ألا يجاورنا إلاك ديار وكما قلبت الواو ياء استحساناً لا عن قوة علة في نحو غديان وعشيان وأبيض لياح كذلك أيضاً قلبت الياء واواً في نحو الفتوى والرعوى والتقوى والبقوى والثنوى والشروى - وقد ذكر ذلك - وقولهم عوى الكلب عوة‏.‏

وكما أتبعوا الثاني الأول في نحو شد وفر وعض ومنذ كذلك أتبعوا الأول الثاني في نحو‏:‏ اقتل اخرج ادخل وأشباه هذا كثير فلما رأى سيبويه العرب إذا شبهت شيئاً بشيء فحملته على حكمه عادت أيضاً فحملت الآخر على حكم صاحبه تثبيتاً لهما وتتميماً لمعنى الشبه بينهما حكم أيضاً لجر الوجه من قوله ‏"‏ هذا الحسن الوجه ‏"‏ أن يكون محمولاً على جر الرجل في قولهم ‏"‏ هذا الضارب الرجل ‏"‏ كما أجازوا أيضاً النصب في قولهم ‏"‏ هذا الحسن الوجهَ ‏"‏ حملاً له منهم على ‏"‏ هذا الضارب الرجل ‏"‏ ونظيره قولهم‏:‏ يا أميمة ألا تراهم حذفوا الهاء فقالوا‏:‏ أميم فلما أعادوا الهاء أقروا الفتحة بحالها اعتياداً للفتحة في الميم وإن كان الحذف فرعاً‏.‏

وكذلك قولهم ‏"‏ اجتمعت أهل اليمامة ‏"‏ أصله ‏"‏ اجتمع أهل اليمامة ‏"‏ ثم حذف المضاف فأنث الفعل فصار ‏"‏ اجتمعت اليمامة ‏"‏ ثم أعيد المحذوف فأقر التأنيث الذي هو الفرع بحاله فقيل اجتمعت أهل اليمامة ‏"‏ نعم ‏"‏ وأيد ذلك ما قدمنا ذكره‏:‏ من عكسهم التشبيه وجعلهم فيه الأصول محمولة على ولما كان النحويون بالعرب لاحقين وعلى سمتهم آخذين وبألفاظهم متحلين ولمعانيهم وقصودهم آمين جاز لصاحب هذا العلم الذي جمع شعاعه وشرع أوضاعه ورسم أشكاله ووسم أغفاله وخلج أشطانه وبعج أحضانه وزم شوارده وأفاء فوارده أن يرى فيه نحواً مما رأوا ويحذوه على أمثلتهم التي حذوا وأن يعتقد في هذا الموضع نحواً مما اعتقدوا في أمثاله لا سيما والقياس إليه مصغ وله قابل وعنه غير متثاقل‏.‏

فاعرف إذاً ما نحن عليه للعرب مذهباً ولمن شرح لغاتها مضطرباً وأن سيبويه لاحق بهم وغير بعيد فيه عنهم‏.‏

ولذلك عندنا لم يتعقب هذا الموضع عليه أحد من أصحابه ولا غيرهم ولا أضافوه إلى ما نعوه عليه وإن كان بحمد الله ساقطاً عنه وحرىً بالاعتذار هم منه‏.‏

وأجاز سيبويه أيضاً نحو هذا وهو قوله ‏"‏ زيداً إذا يأتيني أضرب ‏"‏ فنصبه ب ‏"‏ أضرب ‏"‏ ونوى تقديمه حتى كأنه قال ‏"‏ زيداً أضرب إذا يأتيني ‏"‏ ألا ترى إلى نيته بما يكون جواباً ل ‏"‏ إذا ‏"‏ - وقد وقع في موقعه - أن يكون التقدير فيه تقديمه عن موضعه‏.‏

ومن غلبة الفروع للأصول إعرابهم في الآحاد بالحركات نحو زيدٌ وزيداً وزيدٍ وهو يقوم وإذا تجووزت رتبة الآحاد أعربوا بالحروف نحو الزيدان والزيدين والزيدون والعمرين وهما يقومان وهم ينطلقون‏.‏

فأما ما جاء في الواحد من ذلك نحو أخوك وأباك وهنيك فإن أبا بكر ذهب فيه إلى أن العرب قدمت منه هذا القدر توطئة لما أجمعوه من الإعراب في التثنية والجمع بالحروف‏.‏

وهذا أيضاً نحو آخر من حمل الأصل على الفرع ألا تراهم أعربوا بعض الآحاد بالحروف حملاً لهم على ذلك في التثنية والجمع‏.‏

فأما قولهم ‏"‏ أنت تفعلين ‏"‏ فإنهم إنما أعربوه بالحرف وإن كان في رتبة الآحاد - وهي الأول - من حيث كان قد صار بالتأنيث إلى حكم الفرعية ومعلوم أن الحرف أقوى من الحركة فقد ترى إلى علم إعراب الواحد أضعف لفظاً من إعراب ما فوقه فصار - لذلك - الأقوى كأنه الأصل والأضعف كأنه الفرع‏.‏

ومن ذلك حذفهم الأصل لشبهه عندهم بالفرع ألا تراهم لما حذفوا الحركات - ونحن نعلم أنها زوائد في نحو لم يذهب ولم ينطلق - تجاوزوا ذلك إلى أن حذفوا للجزم أيضاً الحروف الأصول فقالوا‏:‏ لم يخش ولم ير ولم يغز‏.‏

ومن ذلك أيضاً أنهم حذفوا ألف مغزىً ومدعىً في الإضافة فأجازوا مغزِيّ ومرمِيّ ومَدعِيّ فحملوا الألف هنا - وهي لام - على الألف الزائدة في نحو حبلىّ وسكرىّ‏.‏

ومن ذلك حذفهم ياء تحية وإن كانت أصلاً حملاً لها على ياء شقية وإن كانت زائدة فلذلك قالوا تحويّ كما قالوا سقويّ وغنويّ في شقية وغنية‏.‏

وحذفوا أيضاً النون الأصلية في قوله‏:‏ ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل كأنهما ملآن لم يتغيرا وقوله‏:‏ أبلغ أبا دختنوس مألكةً غير الذي قد يقال مِلكذب كما حذفوا الزائدة في قوله‏:‏ وحاتم الطائي وهاب المئى وقوله‏:‏ ولا ذاكراً الله إلا قليلا ومن ذلك حملهم التثنية - وهي أقرب إلى الواحد - على الجمع وهو أنأى عنه ألا تراهم قلبوا همزة التأنيث فيها فقالوا‏:‏ حمراوان وأربعاوان كما قلبوها فيه واواً فقالوا‏:‏ حمراوات علماً وصحراوات وأربعاوات‏.‏

ومن ذلك حملهم الاسم - وهو الأصل - على الفعل - وهو الفرع - في باب ما لا ينصرف ‏"‏ نعم ‏"‏ وتجاوزوا بالاسم رتبة الفعل إلى أن شبهوه بما ورءاه - وهو الحرف - فبنوه نحو أمس وأين وكيف وكم وإذا‏.‏

وعلى ذلك ذهب بعضهم في ترك تصرف ‏"‏ ليس ‏"‏ إلى أنها ألحقت ب ‏"‏ ما ‏"‏ فيه كما ألحقت ‏"‏ ما ‏"‏ بها في العمل في اللغة الحجازية‏.‏

وكذلك قال أيضاً في ‏"‏ عسى ‏"‏‏:‏ إنها منعت التصرف لحملهم إياها على لعل‏.‏

فهذا ونحوه يدلك على قوة تداخل هذه اللغة وتلامحها واتصال أجزائها وتلاحقها وتناسب أوضاعها وأنها لم تقتعث اقتعاثاً ولا هيلت هيلاً وأن واضعها عني بها وأحسن جوارها وأمد بالإصابة والأصالة فيها‏.‏